-->
صدى المعرفة صدى المعرفة

ظاهرة الغموض في الشعر العربي..الغموض في عصر النهضة


الغموض في عصر النهضة:
بعد هجمة طويلة للشعر، في عصور الانحطاط والتقهقر، أخذ الوعي ينتشر، واليقظة تزدهر، وراح التطور يشمل جوانب الحياة المادية والمعنوية، فكان لا بد أن ينال الأدب نصيبه من هذه الحالة الجديدة، وهكذا، رأينا الشعر يستعيد نشاطه وحركته وحيويته، ويسترجع مكانته، ويقوي صلته بالحياة العامة المتجددة، فظهر الشاعر محمود سامي البارودي، وتلاه شوقي وحافظ، ومطران، والشعراء المعاصرون لهم، ولو بحثنا عن صفة مشتركة تشمل شعرهم جميعاً، لكانت محاولتهم الجادة لدخول العصر الحديث (الحداثة) من خلال الموضوعات الجديدة التي رافقت تطور الحياة، وقيام النهضة، لكن أساليبهم اللغوية والتعبيرية ظلت أساليب الشعر العربي القديم (مع تعديلات طفيفة جداً) الموروثة من العهدين العباسي والأندلسي خاصة، ومن هنا صح إطلاق بعض الدارسين اسم (الكلاسيكية الجديدة) على شعر النهضة، إذ ظل الشكل قديماً وجاءت الموضوعات جديدة (وهذا شبيه بما حدث في فرنسا حين ظهرت الكلاسيكية الجديدة، وقالوا نريد خمراً جديدة في دنان عتيقة)، فإذا درسنا هذا الشعر من باب (الغموض والوضوح) فإننا –بدون أن نتردد- نطلق عليه صفة الوضوح، فهو أبعد ما يكون عن الغموض، وحتى مظاهر الغموض التي عرفناها في الشعر القديم، قد اندثرت وتلاشت هنا، فالصورة فيه تقوم على طرفين واضحين، والمعاني أفكار نثرية ينظمها الشاعر في سلك من الوزن والقافية، والعواطف تسمى بأسمائها الصريحة، أو تحدد بنتائجها المتداولة، وحين حاول الرافعي –مثلاً- توليد معان جديدة، لم يخرج على الإطار العام لشعر معاصريه المتسم بالوضوح، وهو مبدأ عمّ في هذه المرحلة، واستمرت هذه الحال، إلى أن ظهرت حركة (المعارضة الأدبية) التي قادها العقار وشكري والمازني، فصرنا نلمح بين الحين والآخر، دعوة إلى شيء من الغموض العشري، ولكن ليس بمعناه القديم، يوم كان يعد نوعاً من قصور التعبير، ويذم باعتباره صفة سلبية، بل بمعنى جديد، وفلسفة فنية جديدة، تقوم على شيء من الخفاء والتظليل، وإشراك القارئ في جهد الخلق والتذوق، بدلاً من التنوير الكامل، والوضوح التام، ولعل المازني أكثر زملائه تركيزاً على فكرة "الإيحاء" بدلاً من "التصريح" وتفضيل "الرمز" على التعبير المباشر وإن لم يستطع هو نفسه أن يحقق في شعره ما كان يراه الأفضل والأجمل، وأحسب أن الهوة بين الواقع والمثال في شعره كانت الدافع الأساسي لتحوله عن الشعر إلى النثر، وفي التعليق التالي الذي كتبه المازني عام 1918 على بيتين لكثير عزة، إرهاص بالمذهب الرمزي، وتمهيد له، قال كثير:
وأدنيتني، حتى إذا ما سبيتني

بدلٍّ يُحل العصْم سهل الأباطح
تجافيت عني، حين لا ليَ حيلةٌ

وخلَّفْتِ، ما خلفتِ بين الجوانج
وقال المازني يعقب عليهما، ويحلل الجانب الفني فيهما: "هذان بيتان ليس فيهما معنى رائع، ولا فكر دقيق، لكنهما يصفان حال قائلهما أبلغ وصف، ويتغلغلان إلى النفس تغلغل الماء إلى كبد الملتاح.. وشرح ذلك أن الشاعر لم يتجاوز الإشارة في بيتيه إلى التبيين، والتلميح إلى التصريح، فذكر الدل ولم يذكر دلها، وإن يكن مثل لك فعله وتأثيره، وقال: [وخلفت ما خلفت بين الجوانح] ولم يقل ماذا خلفت، فترك بذلك مضطرباً واسعاً من الخيال، ليتصور لطف دلها، وسحره، وفتنته، وصبابة الشاعر، وشغفه وحرقته.. ومن هنا قالوا في تعريف الشعر: إنه لمحة دالة، ورمز لحقائق مستترة"(19). وقد يخيل إلينا أن الناقد قد حمل البيتين أكثر مما يحتملان، من نتائج، لكنه على كل حال اتخذ منهما متكأ لشرح فكرته، وبيان رأيه الجديد بالنسبة إلى الأدب العربي عام 1918 وإن كان هذا الرأي معروفاً جداً في الأدب الأوربي آنئذ، أما الشعر الذي كتبه العقاد وشكري والمازني فهو دون نقدهم، ولا يكاد يضيف شيئاً هاماً إلى قامة الشعر العربي المكتوب قبلهم.
الغموض لدى (جماعة أبو للو، والرمزيين):
يمكننا أن نعد الآراء النقدية التي بشر بها جماعة الديوان (نسبة إلى الكتاب النقدي الذي أصدره العقار والمازني باسم الديوان) تمهيداً لجماعة أبولو خاصة، فمن خلال الدراسات النقدية، والترجمات الشعرية، والشعر نفسه، المنشور على صفحات تلك المجلة، نلاحظ أن فلسفة الغموض والإبهام قد ربحت أنصاراً، وكسبت أعواناً، فقويت شوكتها، واتسع ظلها، وحين تقرأ شعر الشابي، أو قصائد أبي شادي أو إبراهيم ناجي، أو الصيرفي، أو علي محمود طه، أو محمود حسن إسماعيل، تطالعك بين فينة وأخرى، عبارات مبهمة، لا تدل على شيء محدد، مهمتها:
الإيحاء بالفكرة أو العاطفة، لا تحديدها ولا تسميتها، وتلمح، هنا وهناك، تحليقات جبران خليل جبران، ورموزه التي تجمع بين الشفافية والغموض، مما يشير إلى إفادة الجماعة من تراث جبران، وإسهاماته الرمزية المبكرة، وكان من أكثر المتأثرين به والمستفيدين منه الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، وعنده تقرأ ألفاظاً (كالفجر، النور، السماء، وسواها) معروضة في سياق جديد، وقد تغيرت دلالاتها المعجمية القديمة، وغدت رموزاً غامضة لأنها غير محددة الدلالة، وشفافة لأنها لا تضلل، ولا تحير، فهي ترسم "جواً" نفسياً وتهيء "حالة"، ولزيادة التأكيد على هذه الظاهرة في شعرهم وتوضيحها، نعرض المثال التالي. قال أبو شادي في قصيدته "اللهب المقدس":
قد رشفنا مُنى الحياة بثغر

وارتوينا من اللهيب المقدس
فلما قرأ الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري هذا البيت علّق بقوله: "فالإيهام الرمزي هنا في اللهب المقدس، فالكلمتان تحملان الخيال على أجنحة هفافة إلى واد من أودية الجن، إلى مدينة سحرية من مدن الخيال"(20) ونضيف من جانبنا أن هذه العبارة "اللهيب المقدس" ليس لها مدلول محدد، يمكن أن يشار إليه، ويوقف عنده، إنها غامضة غموضاً موحياً، يترك للخيال فسحة واسعة، ومسارب متعددة، كما يدعو القارئ إلى أعمال فكره وذوقه وخياله، وهذا الإيحاء مبدأ أساسي من مبادئ الرمزية في الشعر، كما يعلن أصحابها دائماً، والأمثلة عليه وافرة في شعر الجماعة، وفرة تلفت النظر، لكنها متناثرة في الدواوين والقصائد، تناثرا يبعد عن أصحابها صفة "المذهبية" ويجعلهم في مدى التأثر والتقارب من المذهب الرمزي عند الغربيين لأن المذهبية الخالصة، والاعتقاد بها، والدعوة لتوضيحها، والحماسة لأساليبها لم تكن من شأنهم، وإنما هي من شأن شاعرين هامين، ظهر أحدهما في لبنان، وظهر الآخر في مصر، وكانت بداية كل منهما، مستقلة عن بداية الآخر من جهة، وسمتقلة عن جماعة أبو للو من جهة ثانية، على رغم التقارب الزمني بينهم، فأما أولهما وهو سعيد عقل، فقد اطلع على المذهب الرمزي عند إعلامه من الفرنسيين ثم احتضنه وتبناه وأخذ يشرح مبادئه وأفكاره، بحماسة واندفاع قويين، عارضاً ذلك في محاضرات له، أو مقدمات لدواوينه، أو دواوين سواه، وأهم هذه المقدمات جميعاً مقدمته لديوانه (المجدلية) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1937. وليس في هذه المقدمة ولا سواها من آراء عقل، شيء جديد، بالنسبة إلى أن آراء الرمزيين الغربيين أنفسهم، لكن الجديد فيها، بالنسبة إلى الشعر العربي –في رأينا- هو العناية البالغة، والاهتمام الشديد، بجانب لم يوله العرب القدماء، ولا أدباء النهضة، اهتماماً كبيراً، ونعني به المبالغة في تأثير (اللاوعي) على الخلق الفني، فاللاوعي عند سعيد عقل، هو منبع الحالة الشعرية من ناحية، ثم هو من ناحية أخرى أصلح الظروف النفسية التي يمكن فيها للمتلقي، أن يستقبل كل عطاء القصيدة، وإشعاعاتها الفنية، لأن وضع القصيدة في منطقة الضوء المنطقي، أو الوعي يحد من قدرتها على الواقع النفسي بما فيه من اضطراب، وإبهام، وتناقض، ومن ثم يقول سعيد عقل:
"أرجى أن اللاوعي رأس حالات الشعر، ورأس حالات النشر الوعي، قبل إبداعي الشعر، بل في ذروة إبداعي، لا أكون واعياً في ذاتي، ولا واحداً من الأشياء الواضحة، والثابت –ويمكن الاستناد في ذلك إلى العالم هنري بوانكاره- أن لا أثر فكرياً ذا قيمة، رياضياً كان أم سياسياً، موسيقياً أم شعرياً، تحقق في الضوء"(21). إن لي هنا ملاحظتين: (الأولى) بالرغم من الغلو والتعميم في تقدير جانب اللاوعي في حياة الشاعر وإبداعه، وتجاهل الوعي الذي لا يمكن تجاهله في مجال الإبداع، فإن (سعيداً) قد أشار إلى أساس هام من أسس الغموض في الشعر عامة والحديث منه خاصة أعني به (اللاوعي).
والملاحظة (الثانية) هي أن من يرجع إلى شعر سعيد عقل ذاته يجد أن أجمل قصائده هي أبعدها عن اللاوعي، وأقربها إلى الوعي الكلاسيكي الذي يقوم على التجويد والتنقيح والتأنق في اختيار اللفظة وسبك العبارة، هذا هو الشاعر الأول، أما الشاعر الثاني وهو بشير فارس، فإنه كان من المطلعين على المذهب الرمزي في أصوله ومصادره الغريبة أيضاً، وكان من المتحمسين له، والدعاة لأفكاره ومبادئه، وقد أوضحها وفصلها في مقدمات مسرحياته، كمفرق الطريق، وجبهة الغيب، وقد نشرت الأولى عام 1938، إلا أن (بشراً) كسعيد لم يضف جديداً للنظرية الرمزية كما هي معروفة عند مؤسسيها ودعاتها الأوربيين، بالرغم من تركيزه على التصوف الشرقي، ولهذا نكتفي باعتماد إحدى قصائده، لنتخذها نموذجاً للغموض في الشعر الرمزي، بينما نقلنا الجانب النظري من الرمزية عن سعيد عقل، ونذكر بأن هذا الغموض ليس حصيلة اللاوعي وحده، وإنما هو حصيلة الوعي، والقصد، والتعمد. قال بشر فارس بعنوان: "إلى زائرة"(22).
لو كنتِ ناصعة الجبينْ

هيهات تنفضني الزيارهْ
ما روعة اللفظ المبينْ

السحر من وحي العباره

***

ظِلٌّ على وهج الحنينْ

رسمته معجزة الإشارهْ
خطٌّ تساقط كالحزينْ

أرخى على العزم انكساره
ماذا بوجد المحصنين

صوت شجٍ خلف الستاره
غيبتِ في العجب الدفين

معنى براعته البكاره
درّاً يفوت الناظمين

ونهضت تهديني بحاره
خطوات وسواسٍ رزين

وهبٌ تعميه الطهاره

الغموض بأبرز معانيه الحديثة، وهو تعدد الدلالات –يتضح جلياً في هذه القصيدة، فهي تعني معاني مختلفة لعدد من القراء، وقد يكون كل من هذه المعاني مختلفاً هو الآخر، عما قصده الشاعر، بل ربما كان في بعض الأحيان خيراً منه، فماذا رأى القراء والنقاد في هذه القصيدة؟؟ الأستاذ "عدنان الذهبي" يرى أن الزائرة عجوز قبيحة، يفرق الشاعر من زيارتها، فيلقاها بهذه الأبيات، ويرى (سامي عازر) إنها حملة على الأدب اللفظي، أما (أبو مضر) فيراها زائرة حقيقية، ويمضي في شرح القصيدة على هذا الأساس، وأما الشاعر (صلاح الأسير) فلا يبصر في تلك الزائرة مدلولاً محدداً، لأنها بحسب رأيه، ترمز إلى ترجرج العاطفة عند الشاعر، وقد تولته نوازع الغريزة، فكانت قصيدته تلك ظلاً لحالته النفسية، وأخيراً فإن الأستاذ (أنطون كرم) لا يرى في القصيدة إلا تحليلاً لبعض مفهوم صاحبها للشعر، ويوافقه الدكتور (مصطفى ناصف) فيرى أنها نظم للنظرية الرمزية ذاتها كما فهمها الشاعر من المصادر الغربية.
ومما تقدم يتبين أن الرمزيين سعوا إلى الغموض سعياً مقصوداً، ولم يكن عندهم حالة عفوية، ومهما تكن قيمة التجارب الشعرية التي عبروا عنها، ومهما يكن نجاحهم أو إخفاقهم في تحقيق غاياتهم الفنية، فإن مما لا يسهل تجاهله، الدور الذي قاموا به، في إشاعة الغموض في الشعر العربي الحديث، وبذلك امتصوا غضبه النقاد المحافظين، وتحملوا سورة سخطهم في أول فورانها وغليانها، فمهدوا بذلك الطريق للشعراء الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الغموض أبرز خصائص شعرهم

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

صدى المعرفة

2016