-->
صدى المعرفة صدى المعرفة

ظاهرة الغموض في الشعر العربي ..الفصل الاول



دواعي البحث:
مشكلة الغموض في الشعر العربي الحديث، من المشكلات القديمة الجديدة في آن، مهما بحثت فيها تجد أن هناك متسعاً للقول والنقاش والحوار. حين خطرت لي فكرة المقال ترددت قليلاً: لقد كتب كثير من نقادنا، ودارسينا في الغموض، فتارة على شكل بحث مستقل، متعمد، وتارة بشكل عارض من خلال مناسبة طارئة، أو فرصة متاحة، وكذلك شعراؤنا: جابهتهم المشكلة ذاتها في اللقاءات. والندوات، أو على صفحات المجلات والجرائد، فأنكرها بعضهم وقال:
لا غموض في الشعر أبداً، وإنما هناك قصور أو تقصير من جانب القراء، واعترف بها آخرون وقالوا: إن الغموض علامة التجديد والإبداع والنبوغ، فتضاربت الآراء هنا وهناك، وكثر الهرج والمرج، واختلطت الأفكار الموضوعية الجادة، بالنزوات المرتجلة، عندئذ، أمام هذا الوضع القلق المضطرب، ترددت وتساءلت:
أين أضع أقدامي في مثل هذا الزحام الحاشد؟؟ كيف يسمع صوتي عبر هذا الضجيج؟؟
ولما أخذت في تمحيص آراء النقاد وتصنيفها بعد دراستها واحداً واحداً، أيقنت أن مسألة الغموض متشعبة، والحديث فيها ذو شجون، وأن الاعتماد على النصوص الشعرية، واستقراءها، وربطها بالوقائع الجارية، والتاريخ الأدبي، تفتح باب الاجتهاد، وتهيء الفرصة، لإضافة شيء جديد، لذلك مضيت قدماً في التحضير والإعداد، حتى كان هذا المقال.
هل المشكلة حقيقية أم مصطنعة؟
نظرة عجلى، يلقيها الدارس على بعض الكتب النقدية، قديمها وحديثها، عربيها وغربيها، تظهره على جدية المشكلة، وخطرها، والإشارة إلى هذه الكتب تغني في هذا المقام عن التفصيل: الموازنة للآمدي، الوساطة للقاضي الجرجاني، أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون غطاس كرم، الشعر العربي المعاصر للدكتور عز الدين إسماعيل، ثورة الشعر الحديث للدكتور عبد الغفار مكاوي، شعراء المدرسة الحديثة لروزنتال، مقالات مختارة لإليوت، سبعة أنماط من الغموض لإمبسون، الذهن الأدبي لماكس إيستمان، هذه الكتب جميعاً، وسواها من الكتب النقدية، طرحت مشكلة الغموض في الشعر، فسرت، وعللت، اتفقت واختلفت، لكنها أكدت أن المشكلة حقيقة واقعة، وليست وهماً من الأوهام التي تغشى بسحبها السوداء، فتعشي بعض العيون، ضعيفة النظر وحدها، ثم هناك دليل آخر على جدية المشكلة وهو تاريخنا الأدبي: فقد اشتهر في أدبنا العربي منذ القديم صنفان من الشعراء: صنف عرف بالصعوبة والغموض، أمثال الفرزدق، وأبي تمام، وأبي الطيب، وأبي العلاء المعري، وصنف عرف بالسهولة والوضوح، أمثال جرير والبحتري والعباس بن الأحنف وأبي فراس الحمداني، والبهاء زهير..
أما الصنف الأول فقد حظيت دواوينهم بالشروح المتعددة، وأثارت أبياتهم المعقدة كثيراً من مسائل الخلاف والجدل بين النقاد، وتأرجحت مكانتهم الأدبية: بالغ بعض النقاد والأدباء في مدحهم، وتمجيدهم، وأسرف بعض آخر في الذم والازدراء، وأما الصنف الثاني من الشعراء فقد قرأهم الناس، فأعجبوا بهم، أو نفروا منهم، وأقبلوا على دواوينهم، أو انصرفوا عنها، لكنهم لم يحركوا الماء الراكد، ولم يثيروا الخلاف والجدل، ولاظفرت دواوينهم بالشروح، ولا أبياتهم بالتعليق، ولا صورهم بالتأويل. إن مثل هذا التصنيف يمكن أن ينطبق على شعرائنا المعاصرين، وعلى الشعراء الغربيين أيضاً، وما أكثر ما نسمع أو نقرأ شكاوى مرة تحملها الصحف، أو الوجوه، احتجاجاً على شعراء يكتبون شعراً صعباً لا يفهم، فكأنهم يكتبونه لأنفسهم، أو لنخبة منتقاة بعناية، أو حلقة ضيقة من الأصدقاء والمقربين، تستطيع وحدها أن تقدر شعرهم أو تتذوقه، أو تفهمه، أو تتأثر به، ولن نطيل الآن في الحديث عنهم، فلذلك مكانه في المقال، وإنما نشير إلى غموضهم لنؤكد الجدية البالغة لظاهرة الغموض في الشعر العربي عامة وفي الحديث منه خاصة.
الغموض في الشعر العربي القديم:
لم يكن الذوق العربي القديم بعامة، يميل إلى الغموض والإبهام، والألغاز فقد كان يميل –على الأغلب- إلى الوضوح، وتفضيل كل شيء مكشوف بارز، كمعالم الصحراء في ضوء الشمس الساطعة، ومن هنا، ظل الشعر الغامض –الذي يكون نسبة محدودة من الشعر العربي- يواجه نقداً، ومعارضة، وذماً، وقبل أن نفصل في طبيعة الذوق العربي القديم، في النقد والأدب، نحدد أشكال الغموض ومظاهره التي تجلى فيها، وأهمها في نظرنا الأشكال التالية:
1-الألفاظ الغربية:
ونعني بها، لجوء الشاعر إلى مفردات من اللغة، قليلة الاستعمال والتداول، لا في لغة الأحاديث اليومية في مجتمعه فحسب، بل وفي قصائد الشعراء المعاصرين، له، أو السابقين لعصره، بفترة قريبة أيضاً، ومهما كانت الأسباب الدافعة إلى استخدام ذلك النوع من المفردات، فإن الأمر الذي لا خلاف عليه، هو أن هذه الغرابة تضع حاجزاً بين الشاعر والقارئ، فتسبب ضرباً من الغموض، فإن قيل: إن هذا الغموض نسبي، وإن عالماً باللغة وأساليبها ومفرداتها، لن يجد صعوبة في تذوق تلك القصائد، ذات الغرابة، ولن يشكو من غموضها، فالجواب إن الشعر لم يكتب للمختصين وحدهم، وإنما يكتب لجمهور واسع عريض، ومع ذلك لا مناص من الاعتقاد بأن الغموض نسبي، وأن ملابسة الشيء الغريب، تجعله مألوفاً.
والتمرس بالشعر الصعب يتركه سهلاً وواضحاً، وعلى الرغم من كل ذلك يبقى طابع الغموض سمة تميز أبياتاً كهذا البيت الذي قاله ساعدة بن جؤية يصف فيه وعلاً أو ثوراً(1):
موكل بشدوف الصوم ينظرها


من المغارب، مخطوف الحشا، زرم
فإذا قرأت هذا البيت أو سمعته، وقفت حائراً أمامه، لا تدري ماذا يريد الشاعر بهذه الألفاظ، التي لا نستعملها اليوم في شعرنا، ولا في نثرنا، بل لم يكن حتى شعراء المعلقات يستعملونها، لأنها لم ترد في أشعارهم، وكذلك لم تذكر في القرآن الكريم، أو في الشعر الإسلامي، المشهور المتداول، فإذا عمدت إلى المعجمات الموسعة، أو كتب اللغة، أو إذا عدت إلى الأصمعي، وأبي علي القالي، فلن يخيب ظنك هنا، ولن تعود خالي الوفاض، كما يقولون –فقد تقرأ شرحه أو تصغي إلى أبي علي القالي يملي: "الشدوف: جمع شدف وهو الشخص، الصوم: شجر يشبه الناس، المغارب: الأماكن التي يتوارى فيها مخطوف الحشاء: ضامر، وزرم: قليل الرهط، أو لا يستقر بمكان". هنا يتضح معنى البيت.
فالشاعر يصف وعلاً خائفاً لا يستقر بمكان، غلبه الجوع فضمر، وخاف من الناس فتوارى، وأبصر أشجاراً ظنها بشراً يتربصون به، فراح يرقبهم متوجساً، أليس في هذا البيت غموض؟؟ ألا يحتاج فهمه إلى جهد ومعاناة؟؟ وهذا بيت آخر، موضوعه الغزل، وصاحبه من عشاق العرب المشهورين، فيه من غرابة الألفاظ ما يجعله غامضاً أيضاً، قال ذو الرمّة في وصف "ميّ" حبيبته(2):
لها، كَفَلٌ، كالعانكِ، اسْتَنَّ فوقه


أَهاضيبُ –لَبَّدْنَ الهذاليلَ- نُضَّحُ
لا يخفى ما في البيت من كلمات غريبة، تواجه القارئ، منذ اللحظة الأولى، وهي سمعة غلبت على شعر الشاعر، فقللت قراءه، وصرفت الكثيرين عنه على مر العصور، اقرأ البيت أولاً دون الاستعانة بالشرح، وبيان الغريب، وتأمل معانيه وصوره، ألا تلمح فيه الغموض؟؟ ألا يبدو لك عالماً مجهولاً؟؟ ثم انظر إليه مرة أخرى بعد الشرح التالي: "كفل المرأة: مؤخرتها، العانك: التل من الرمل. استن: جرى، الأهاضيب: دفعات من المطر، الهذاليل: أكوام من الرمل الناعم" ألا معناه تقليدياً معروفاً، وصوره عادية مكرورة؟؟
هل نسمي مثل هذه الأبيات صعبة أم نقول أنها غامضة، علماً بأن الشرح اللغوي يعيدها سهلة، واضحة، ولا يترك فيها شيئاً غامضاً؟؟ مسألة فيها نظر!!..
2-الألفاظ المشتركة:
هي ألفاظ، لها أكثر من معنى واحد، تنبه لها علماء اللغة العربية القدماء وذكروها في معجماتهم وأبحاثهم اللغوية، وليس الاشتراك خاصة بالعربية وحدها، ففي لغات العالم الحية كلها نجد هذا النوع من الألفاظ(3). فإذا وردت في الشعر، فإن السياق هو الذي يحدد المعنى في هذا البيت أو ذاك، إلا أن بعض الشعراء، لم يضعوها في سياق واضح، دقيق، ولم يذكروا قرينة تحدد معنى واحداً، وتمنع سواه، ولذلك يحدث اللبس، وينشأ الغموض، ويتسع المجال لاجتهادات المفسرين والنقاد، فتؤكد وجود الغموض فيما هي تحاول أن تزيله، ومن الأمثلة على هذا النوع بيتان رواهما أبو علي القالي في أماليه(4):
لقد مررت على قطيعٍ هالكٍ

من مال أشعث، ذي عيال، مصرم
من بعد ما اعتلت عليّ مطيتي

فأزحت علتها، فظلت ترتمي
إن كلمة قطيع، من الألفاظ المشتركة، وقد جاءت في البيت ضمن سياق يسمح بأكثر من وجه، لذلك فسر البيت عدة تفسيرات، عكست وجهات النظر المختلفة لأدبائنا القدامى:
آ-قال أبو علي القالي يفسر البيتين معاً: "القطيع: السواط، الهالك: الضائع، المصرم: المقل المخف، والمعنى: كانت ناقتي قد اعتلت علي، فلما أصبت السوط فضربتها به ظلت ترتمي، أي تترامى في سيرها".
ب-وقال ابن قتيبة: "القطيع: هو قطيع الإبل: هالك: ضائع. المعنى: أزاح علتها بأن أرعاها معها، فأشبعها، فظلت ترتمي..".
جـ-وقال ابن السكيت: "القطيع: الخبط (وهو نوع من العلف) هالك: ليس عنده ربه-والمعنى: أشبع مطيته من الخبط، من بعد ما أعيت، فنشطت للسير، وجدت فيه(5).
وقد يتضح الأمر أكثر، إذا ذكرنا مثالاً آخر، على الغموض الذي تحدثه الألفاظ المشتركة، في الشعر العربي القديم، قال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلا


دِ صدر القناة، أطاع الأميرا
أشكال هذا البيت يكمن في لفظتي (القناة، الأمير) فالشائع في الأدب استعمال القناة بمعنى الرمح. والأمير بمعنى الملك أو الوالي، أو صاحب السلطة، لكن الشاعر استخدم القناة بمعنى (العصا) والأمير بمعنى (من يقود أو يصدر أمراً) ونحن لا ننفي العلاقة بين الاستعمالين: الشائع وغير الشائع لكل من اللفظتين، لكن الذي يخطر لذهن القارئ هو المعنى الشائع الاستعمال، وبذلك حصل الإشكال، لقد علق القاضي الجرجاني على ذلك بقوله: "فإن هذا البيت –كما تراه- سليم النظم من التعقيد، بعيد اللفظ عن الاستكراه، لا تشكل كل كلمة بانفرادها على أدنى العامة، فإذا أردت الوقوف على مراد الشاعر، فمن المحال عندي أن تصل إليه، غلا من الاستدلال بشاهد الحال، وفحوى الخطاب، فأما أهل زماننا، فلا أجيز أن يعرفوه إلا سماعاً، إذا اقتصر بهم من الإنشاد على هذا البيت المفرد، فإن تقدموه أو تأخروا عنه بأبيات لم أبعد أن يستدل ببعض الكلام على بعض، وغلا فمن أطاع لن يأمره وينهاه، واستسلم لقائده، وذهبت شرته(6)" وأحسب أن تعليق الجرجاني هذا يغني عن أي تعليق.
3-التعسف في الصياغة:
للتعسف أشكال متنوعة، لكنها تنفق جميعاً في مخالفتها للقواعد النحوية، والمنطقية التي تعارف عليها الناس، وجرت بها العادة، وعدت من الأصول التي يلتزمها الأدباء والشعراء في نتاجهم عامة، غلا من شذ ونشز، أو خالف القواعد اللغوية عمداً، أو عجزاً، أو جهلاً، وقد تناولت كتب البلاغة العربية القديمة جوانب من هذا التعسف في مقدماتها تحت ما أسموه (بالتعقيد) حيث يشيك المتكلم طريقك إلى المعنى، ويوعر مذهبك نحوه، حتى يقسم فكرك، ويشعب قلبك، فلا تدري من أين تتوصل، وأي طريق تسلك إلى معناه، ومن أبرز هذه الأشكال: التقديم والتأخير، وتغيير مواقع الألفاظ في العبارة، والإبهام في مراجع الضمائر، فلا تتوفر قرينة تدلك إلى أين يرجع الضمير، وهذه حالات متعددة لا حالة واحدة، تؤدي كلها إلى الغموض في الشعر، والإبهام فيه، وسنكتفي الآن بعض الأمثلة، يقول الفرزدق وهو الذي اشتهر بالتعقيد ومخالفة القواعد، وقوله للنحاة: "علي أن أقول وعليكم أو تحتجوا". من قصيدة مشهورة:
إلى ملك، ما أمه من محاربٍ


أبوه، ولا كانت كليب تصاهره
إن فهم هذا البيت صعب، ومعناه محير، ما لم يدرك القارئ الترتيب الأصلي للألفاظ، فإذا عرف أن الشاعر قدم وأخر، وكان قصده أن يقول: إلى ملك أبوه من محارب، ما أمه، بأن له المعنى، وزال الغموض، ومثل ذلك، ولكن بدرجة أقل من التعسف قال أبو الطيب المتنبي(7):
وفاؤكما كالربع: أشجاه طاسمه


بأن تسعدا، والدمع أشفاه ساجمه
فهو يخاطب صاحبين له، ويزعم أن عدم وفائهما له بالمساعدة على البكاء، مما يزيد في حزنه كالربع كلما درست معالمه كان ذلك أدعى لحزنه، ثم اعتذر بأن الدمع يشفي الباكي، لأن من حزن قلبه استراح بالبكاء. والصياغة الأصلية للبيت هكذا: وفاؤكما بأن تسعدا، كالربع أشجاه طاسمه. ومن الأمثلة على الغموض الناتج عن إبهام الضمائر واختلاطها قول المتنبي أيضاً:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسداً


لمن بات في نعمائه يتقلب
البيت من قصيدة يمدح فيها كافوراً الأخشيدي، والذي أحدث الأشكال فيه، الضمير في كلمة "نعمائه" فصار يحتمل أكثر من معنى واحد، وتفسير ذلك أن هذا الضمير في نعمائه إذا عاد على من الثانية يكون معنى البيت كالتالي "أشد الظالمين ظلماً من تقلب في نعمة إنسان، ثم بات يحسده عليها" أما إذا عاد الضمير على من الأولى فإن المعنى يتغير ليصبح على النحو التالي: "أشد الناس ظلماً من أولى إنساناً نعمة ثم حسده عليها، فهو الواهب، وهو الحاسد". والمعروف أن الشاعر لم يقصد إلا معنى واحداً، ولكنه لم يحترس من الثاني(8).
4-المعاني الدقيقة:
كانت معاني الجاهليين والإسلاميين فطرية سهلة، مصدرها عواطفهم ومشاعرهم العفوية، فإن جرى فيها شيء من الحكم والأمثال فهو صدى التجارب ومعاناة الحياة، فالشاعر ليس من همه أن يبتكر المعاني التي لم تخطر لأحد من قبل، ولا أن يستنبط الأفكار التي لم تمر بالأذهان أبداً، لذلك قال الجاحظ كلمته المشهورة: "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي".. فلما جاء المحدثون جعلوا يدخلون في معانيهم ثمرات أذهانهم واستنباطهم، وعلمهم الغزير، إذ انتشر من حولهم المنطق، وعلم الكلام، والفلسفة، والفلك، والتنجيم وسواها من العلوم، فتأثروا بها، واستفادوا منها، فقد لحظ الجاحظ أن أبا نواس يدخل في شعره ألفاظ المتكلمين، وما لبث أبو تمام أن جاء فعني بالأفكار القوية، وغذى شعره بالفلسفة، والنظرات في الكون، وجرى على غير طريقة العرب، ومذهبهم في المعاني. ولم يرتض كثير من النقاد ذلك، ولم يروا في المعاني التي تحتاج إلى استخراج واستنباط جمالاً فنياً، ولا فضلاً لمن حفل بها لأنها تؤدي إلى الغموض والتعمية وهذا ما لم يقبله النقدة، ولم يشجعوه، كان ابن الأعرابي ينفي من معاني أبي تمام عويصها، وكان إسحق الموصلي يعيبها عيباً شديداً. فقد ذكر العسكري في الصناعتين أن إسحق سمع أبا تمام ينشد قوله:
يا يوم شرد يوم لهوي لهوه


بصبابتي، وأذل عز تجلدي
وأبياتاً أخرى، عند الحسن بن وهب، فقال: "يا هذا لقد شددت على نفسك، والكلام إذا كان بهذه المثابة كان مذموماً". وفي الحق أن أبا تمام حشد في قصائده أبياتاً حيرت النقاد فاختلفوا حولها، وفسروها على وجوه متعددة، لكنهم اتفقوا على ذمها، فقد قال الآمدي: "هذه العويصات في شعره هي شر مذاهبه، أردؤها وأقلها حلاوة" أما المرزوقي فقد صنف كتاباً في تفسير غامض معانيه سماه "شرح المشكل من شعر أبي تمام" واعتبر طلبه للمعاني الغامضة التي يزخر بها ديوانه، وقصده للأغراض الخفية، من الغث الثقيل(9). ولعل بعض الأمثلة توضح هذا النوع من الغموض، قال أبو تمام:
ولهت، فأظلم كل شيء دونها


وأنار منها كل شيء مظلم
لقد عقب المرزوقي على هذا البيت بقوله: "لما جزعت لفراقها اشتد جزعها علي، فأظلم كل شيء في عيني سواها ومن دونها، وبان لي ووضح من مكتوم أمرها، ومكنون ودها لي، ما كان مغيباً عني، ومظلماً علي، ويجوز أن يكون المعنى: ارتاعت لما أحست بالفراق، وتولهت، فألقت قناعها، فأظلم كل شيء دونها لسواد شعرها، فأنار كل شيء مظلم من بياض وجهها، والأول أوضح وأجود". وللتبريزي أيضاً اجتهاده ورأيه فهو يضيف قائلاً: وقد يؤدي لفظ الطائي معنى آخر، وهو أن الأشياء أظلمت دونها، أي، غيرها. وقوله وأنار منها كل شيء مظلم، أي من حسنها تضيء الأشياء المظلمة"(10) وأحب أن أنبه في هذا المكان من البحث أن اختيار أبي تمام لا يعني أنه الوحيد بين شعرائنا القدامى –الذي سبب الغموض، بدقة معانيه واستنباطها، ففي شعر أبي الطيب أمثلة كثيرة من الأبيات المعقدة الغامضة، التي نام ملء جفونه وترك الخلق يسهرون من جرائها ويختصمون.
الذوق العربي القديم وظاهرة الغموض:
بعد هذا العرض الموجز لأشكال الغموض في الشعر العربي القديم، أحاول أن أضع هذه الأشكال في إطارها الموضوعي العام، وأبين موقعها على (خارطة) الشعر العربي، فلقد رأيت –بعد متابعتي لجزء كبير من النصوص الشعرية والنقدية- إن الغموض لا يمثل تياراً غالباً في الشعر القديم، فهو جدول صغير، متعثر يصب في نهر الوضوح الكبير الذي يمثل الغالبية الساحقة من النصوص الشعرية القديمة، ولو عدنا إلى نقادنا المشهورين لتكشفت لنا هذه الحقيقة ذاتها بجلاء وسطوع، فالأصمعي مثلاً، ربما كان أول المنادين بمبدأ الوضوح، فقد نقل عنه الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" قوله الآتي: "البليغ من طبق المفصل، وأغناك عن المفسر" ثم راح أبو عثمان يشرح هذه العبارة الموجزة ويبين مغزاها، ويعرض تأويلها بأسلوبه المعروف، ولتمام الفائدة أورد حديثاً بين تمامة بن أشرس، وجعفر بن يحيى. قال تمامة: قلت لجعفر: ما البيان؟ قال: "أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويجلي عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة، والذي لا بد منه أن يكون سليماً من التكلف، بعيداً عن الصنعة، بريئاً من التعقيد، غنياً عن التأويل"(11).
وبالوقوف عند الجملتين الأخيرتين (البراءة من التعقيد، والغنى عن التأويل) ينجلي اليقين الذي لا شك حوله، إن المبدأ الذي طغى على أدبنا القديم، وغدا من طبائعه الأصيلة، وجسد ذوق العرب في الشعر، إنما هو مبدأ الوضوح ولذا نعمد الآن لتحديد مظاهره التي يتجلى من خلالها ألا وهي:
أولاً: المعاني المكشوفة:
يطالب النقاد العرب، بأن تكون المعاني، مكشوفة، وفي غاية الظهور، ولا يحجبها لفظ، ولا تخفيها عبارة، فإذا قرأت بيتاً من الشعر، تجلت لك معانيه، بكل أبعادها، مع انتهائك من قراءته، وربما تكشف المعنى تاماً قبل قراءة القافية، ولو رجعنا مرة أخرى إلى مجلس شيخنا الجاحظ، لأخبرنا أبو عثمان بما يلي:
"وقال بعضهم، وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوناه- لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه. فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"(12) ففي هذه العبارة الوجيزة التي يعدها الجاحظ من أحسن ما اجتباه ودونه، يستن للنقاد سنة، يتابعه عليها الجميع، لقد استحسنها الآمدي، وأكدها الجر جانبان (عبد العزيز وعبد القاهر) ورددها أبو هلال العسكري وحتى ابن خلدون، في مقدمته، وقف عندها، وأشاد بها إشادة لا تترك مجالاً لمستزيد إذ يعلن: "فإن كانت المعاني كثيرة، كانت حشواً، واستعمل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة، ولا يكون الشعر سهلاً، إلا إذا كانت معانيه تسابقه ألفاظه إلى الذهن"(13).
فهو لا يكتفي بالدعوة إلى الوضوح، وكشف المعاني كشفاً تاماً، بل إنه ليرفض الشعر الغامض رفضاً قاطعاً وفي أكثر من مناسبة أيضاً.
ثانياً: النثرية في الشعر:
يكاد الفرق بين الشعر والنثر القديمين ينحصر في تميز الشعر بزيادة الوزن والقافية وحدهما، وهذا رأي الغالبية العظمى من نقادنا المشهورين، وأشهر تعريف للشعر في الأدب العربي، ما قاله قدامة بن جعفر من أن الشعر: "هو الكلام الموزون المقفى" وقد لقي هذا التعريف في أيامنا أشد نقد، وأعتى هجوم، لكن القدماء كانوا ينظرون إليه بعين التقدير، والتبجيل، ولذلك دعا أكثرهم أن يكون الشعر منطقياً، واضحاً، وسهلاً ممتنعاً، وأن يبدو شبيهاً بالنثر، فابن طباطبا مثلاً في كتابه (عيار الشعر) يشبه نظم القصيدة بكتابة الرسالة. أو الخطاب، ويتم ذلك –في رأيه- على مرحلتين: مرحلة ؟؟ فيها الأفكار والمعاني، ومرحلة نختار فيها الألفاظ والأوزان والقوافي – أما أبو الحسن الجرجاني في وساطته فهو يعرف الشعر ويمدد مقوماته فيقول: "الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه: الطبع، والرواية، والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه".(14) ونعود من جديد إلى أدبنا العربي الكبير (أبي عثمان الجاحظ) في كتابه القيم (البيان والتبيين) لنجد العبارة التالية: "وسمعت أبا داود بن جرير يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام"(15) وبالمقارنة بين العبارتين السابقتين يظهر لنا أن مقومات الشعر والخطابة واحدة في رأي نقادنا القدماء، وحين نعرج على أبي هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) نسمعه يقول: "الكلام –أيدك الله –يحسن بسلاسته وسهولته ونصاعته.. فنجد المنظوم مثل المنشور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه"(16). ثم يذكر من الأمثلة –على ما يصفه بالسهل الممتنع- قول العباس بن الأحنف:
إليك أشكو رب ما حل بي

من صد هذا التائه المعجب
إن قال لم يفعل، وإن سيل لم

يبذلْ، وإن عوتب لم يعتب
ثالثاً: التشبيه وعكسه:
لقد بات اليوم معروفاً، لدى النقاد والمحدثين، أن الخيال في الشعر العربي القديم، كان خاضعاً بصورة عامة للمنطق العقلي، والواقع، وأنه لم يجمح، ولم يحلق بعيداً، ولا عرف التهويم، ومن هنا كانت الاستعارات المفضلة لدى نقادنا، والتشبيهات المختارة عندهم هي الواضحة، القريبة، التي تنكشف أبعادها جميعاً، فلا يبقى فيها جانب معتم، ولا إيحاء غامض، ولذا ثاروا على أبي تمام في استعاراته الشاذة، وصوره الجديدة، وتشبيهاته الغامضة، وصار عندهم مضرب المثل، في فساد الذوق، إلى أن جاء المتنبي فحمل عنه بعض العبء لأنه فعل ما فعله أبو تمام في خلق الصور الغريبة أو الشاذة أو الغامضة، وقد لخص المرزوقي في مبادئه المعروفة بعمود الشعر، خلاصة دقيقة للذوق الأدبي عند النقاد القدماء، ومما قاله حول التشبيه: "وعيار المقاربة في التشبيه الفطنة، وحسن التقدير، فأصدقه مالا ينتقض عند العكس"(17). وحين يكون التشبيه بهذه الصفة لا يبقى مكان للغموض، إذ تنأى الصورة عن كل تأويل، وتبعد عن كل لبس.

وبهذه المظاهر الثلاثة، تتجسد فكرة الوضوح في الشعر العربي ونقده، ويتجسد الذوق الأدبي الذي طغى على مراحل طويلة من تاريخنا الأدبي أيضاً، أما بعض الدعوات إلى تفضيل الشعر الغامض، فقد صدرت عن رجال لا يمثلون النقد الأدبي ولم يكتبوا فيه شيئاً ذا بال، فالعبارة المنسوبة إلى الصابئ "أحسن الشعر ما غمضت معانيه" تبدو عارضة ومبتورة، لا يصحبها شرح وتوضيح، ولا تدعمها أمثلة ومحاجة، ولذلك لم تقف عندها، والرأي الذي يوشك أن يجمع عليه النقاد العرب هو الذي لخصه الجرجاني في وساطته حين قال: "الشعر لا يُحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة، ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقايسة، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة، وبقربه منها، الرونق والحلاوة، وقد يكون الشيء متقناً محكماً، ولا يكون حلواً مقبولاً، ويكون جيداً وثيقاً، وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً"(18). وبهذا الاقتباس من الجرجاني نختم الحديث عن الغموض في الشعر العربي القديم.

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

صدى المعرفة

2016