الغموض في الشعر الحديث:
علينا في البداية، أن نحدد المعنى الذي
نقصده، من عبارة الشعر الحديث، في هذا السياق، ثم نتبين أنواع الغموض، وأشكاله،
ومظاهره فيه.
لذلك نقول: إن الشعر الحديث الذي نعنيه
هنا هو الشعر الذي ظهر في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينات من هذا القرن، وأطلق
عليه النقاد تسميات مختلفة، منها: الشعر الحديث، الشعر المعاصر، الشعر الحر، شعر
التفعيلة، وأسماء أخرى أقل من هذه شهرة وتداولاً، (لا نريد أن نتجاهل قصيدة النثر،
لكن اهتمامنا الأكبر بالشعر الموزون، ذي التفعيلات) واقترن في تاريخ نشأته بأسماء:
نازك الملائكة، السياب، البياتي، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور، أحمد حجازي،
أدونيس..
بدايات هذا الشعر:
لقد رجعت إلى بدايات هذا الشعر، ونظرت
في قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة، و(هل كان حباً) للسياب، ثم عطفت على فيض من
القصائد التي أخذت تنتشر على صفحات مجلة الآداب (البيروتية) أول عهدها بالصدور،
والناس –يومها- بين متحمس لهذا الطارئ الجديد، متفائل به، وبين ثائر عليه متشائم
بمستقبله، ساخط على أصحابه، يكيل لهم التهم: من كفر بالدين، إلى جهل بالتراث،
فالتعامل مع الاستعمار وأعوانه، فالخيانة الوطنية والقومية.. إلخ.
مما يعبر عن الحالة العصبية، التي أحس
بها المحافظون، إزاء موجة التجديد العارمة، وقد تصاعدت الحملة المعادية بعد صدور
مجلتي (شعر وحوار) وزادت حدة وضجيجاً، أقول –حين رجعت إلى بدايات هذا الشعر
وتأملتها متروياً، وجدت أن القصائد الأولى منه، لا تكاد تتميز عن الشعر العربي
القديم بغير التحرر الخارجي الذي تمثل في عدد التفعيلات غير الثابت، أو المحدد،
وفي القوافي المتنوعة تنوعاً كيفياً، وقد بدا هذا الشعر في أول نشأته أميل إلى
البساطة في أفكاره ومعانيه، وإلى الجزالة في ألفاظه ومبانيه، لكنه أخذ –مع الأيام-
يتطور سريعاً، فيزداد عمقاً ونضجاً، وتأثراً بالشعر الأوربي الحديث، وكان هذا
التأثر واسع النطاق، فأخذت تبرز في الساحة الأدبية أسماء غريبة جديدة أمثال
(اليوت) الذي كان تأثيره على شعرنا الحديث ملموساً سواء بتقنياته الفنية المعقدة
أو بمضمونه الرافض للحضارة المادية الحديثة، الساخط عليها، و(إديث سيتول) التي
تأثر بها السياب خاصة، وكذلك (أراغون-أيلوار-لوركا) الذين جمعوا بين التقنية
السريالية والمضمون الواقعي، و(ناظم حكمت) المعروف ببساطة شعره وقوة تأثيره و(سان
جون بيرس) في قصائده النثرية الملحمية ذات الأبعاد الغامضة. لقد تأثر شعرنا الحديث
بهؤلاء الشعراء، بنسب مختلفة، وبما يتفق مع اتجاه كل شاعر من الناحيتين: الفنية،
والإيديولوجية، لكننا لن ندرس الآن كل شاعر منفرداً، لنتبين أشكال الغموض لديه،
وإنما نتناول الظاهرة العامة، في شعر هذا أو ذاك، ونحلل أشكالها أو ندرس أسبابها،
أو نحدد مظاهرها، ومما هو جدير بالذكر والتنويه، أن شعراؤنا لم يلتزموا مذاهب، أو
اتجاهات، تغطي نتاجهم الشعري لمدة طويلة، فالشاعر الواحد يكتب في مرحلة من حياته
شعراً أقرب إلى الرمزية أو السريالية وما فيهما من غموض وتعتيم، ثم يكتب في مرحلة
أخرى شعراً أقرب إلى الواقعية وما في حالات ضعفها من نثرية وابتذال، وقد يجتمع
النوعان في قصيدة واحدة، يبدأ الشاعر بمقدمة سريالية غامضة وينتهي بشعارات سياسية
وهتافات حزبية، ومن هنا كانت تتناقض أحكام النقاد حول الشاعر الواحد أو الديوان،
فبينما يرى أحدهم أن المشكلة الفنية في أحد الدواوين هي مشكلة الغموض يرى آخر أن
مشكلة الديوان ذاته هي السطحية والابتذال (لقد عالج الدكتور إحسان عباس مشكلة
الغموض في شعر البياتي ودواوينه الأولى وبخاصة أباريق مهشمة، فاعترض الأستاذ غالي
شكري وقال إن مشكلة السطحية والابتذال هي الطاغية على الديوان ذاته، وليس
الغموض)(23).
وبحسب ما نرى فإن ظاهرة الغموض في
الشعر الحديث مرتبطة بظاهرة أخرى، تعد من أهم السمات التي تميز هذا الشعر، ونعني
بها ظاهرة (التعبير بالصور) فقد بات النقاد والشعراء مما يعتقدون أن الحالات
النفسية المقعدة والتجارب العاطفية والفكرية المركبة، لا يمكن التعبير عنها
تعبيراً فنياً بغير الصور النامية، لقد طرحت الحاجة إلى التعبير بالصور في أكثر من
مناسبة أو دراسة لكن الذي أشاع هذا المصطلح وأذاعه على نطاق واسع: مقال عن الشعر
المصري كتبه الناقد محمود أمين العالم ونشره في مجلة الآداب عام 1955 في عدد خاص
بالشعر، تحمس –في ذلك المقال- للتعبير بالصور تعبيراً بنائياً، فلفت أنظار الشعراء
والنقاد وحديثه، لكن دفع هذا المبدأ إلى الحدة القصوى هو الشيء الجديد، والذي يتصل
ببحثنا هذا، هو نوع الصور التي شاعت في الشعر الحديث، والواقع أن ما يميزها هو
الغموض، فليست العلاقة بين أطراف الصورة بالأمر الواضح، كما في الشعر العربي
القديم، إن صور الشعر الحديث، تغذيها العتمة في رحمها المظلم العميق، بعيداً عن
خيوط الشمس الذهبية الناعمة، وهنا، لا بد من جلاء حقيقة أغفلها النقاد وأهملوها أو
نظروا إليها نظرة أحادية الجانب، وهي أن الصور الفنية (تشبيهات-استعارات، رموز،
مقارنات، وكل أشكال المجاز) تختلف دلالتها عند الناقد، عن دلالتها بآخرها، ويحدد
دورها ووظيفتها في البناء الكلي للقصيدة، أما الشاعر فهي عنده شيء آخر، حين ينظم
الشاعر قصيدة فهو لا يعي أنه يخلق استعارة، أو يبتكر صورة، أو يجدد تشبيهاً، فإذا
أدرك هذه الأمور فيما بعد فإنه يدركها، بوصفه ناقداً يتذوق عمله الأدبي، أعني بذلك
أن الصور الفنية بشكل خاص تخرج إلى عالم الوعي والضوء على يدي الناقد، وتغلغل في ظلمة
اللاوعي عند الشاعر، والعالمان مختلفان، فإذا ربطنا هذه الحقيقة بأهمية الصور في
الشعر الحديث بقي علينا أن ندرك أن الشعر الأوربي الذي تأثرنا به يتبع كله من مصدر
شعري عظيم، وعبقرية نادرة هي (عبقرية بودلير) الذي تفرع عنه جدولان مبدعان: رامبو،
وملارميه، وعم تأثير الثلاثة في أوربا كلها، ثم تأثرنا نحن بالشعر الأوربي الجديد،
فما هي السمة الكبرى والأساسية لهذا الشعر؟!
يجيبنا الناقد الفرنسي الكبير
(البيريس) في كتابه الهام (الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين) إجابة حاسمة،
ودقيقة فيقول: "فالهلوسة قد فرضت نفسها مع رامبو على أنها مادة لممارسة
الشعرية بالذات، تماماً، كما أن الصدمات والحركات هي مادة الميكانيك. يقول: رامبو:
(لقد اعتدت على الهلوسة البسيطة، وكنت أرى بوضوح كبير مسجداً مكان مصنع، مدرسة
طبول يتولى شؤونها ملائكة، عربات على دروب السماء، صالونا في قاع بحيرة.. وقد
انتهى بي الأمر إلى اعتبار فوضى فكري مقدسة) ويريد مالارميه هو الآخر وبصورة أكثر
منهجية، وعن طريق التأمل أكثر مما عن طريق الإشراق والسطوع أن يهدم المظاهر
بتحويله العالم إلى عالم هلوسة، يكشفه عن (هويات سرية بوساطة اصطفاف ثنائي يتآكل
الأشياء باسم نقاء أبدي).."(24).
هذا المبدأ الهام، مبدأ الهلوسة الذي
أقره رامبو، ومالارميه، هو مصدر للتهويم فوق الواقع، وطريق للعودة إلى الحياة
البدائية، والطفولة الإنسانية، حيث تكتسب الأشياء خصائص فراسية(25) وتتحد الذات
الشاعرة بالكون، والطبيعة، والذوات الأخرى، وحتى بالمعاني المجردة أيضاً، إن
البدائي والطفل لا ينظران إلى الأشياء الأخرى نظرة موضوعية، فالمقعد هو الذي
(يدعو) الطفل إلى الجلوس، والطاولة (تقف) في طريقه ليتعثر، والقمر (يختبئ) عنه
لأنه أسخط أمه، إن مثل هذه النظرة تفسر كلمة إليوت المأثورة (الشاعر أشد الناس
بدائية وأشدهم تمدناً) وما تقدم هو جانبه البدائي أما تمدنه فهو الذي يدفعه إلى
مواكبة عصره والتقدم عليه رغم فوضاه الهائلة، وهكذا تكون الهلوسة والتهويم خلفية
فعالة لتطور الشعر الحديث، وعنها تتفرع أشكال الغموض في الشعر الحديث. والآن
نستطيع أن نحدد هذه الأشكال من خلال المظاهر التي تجلت فيها وهي:
أ-طغيان النزعة اللاعقلية:
لم يعد الشاعر الحديث ينقل الواقع كما
هو، ولا ينسخه كما يبدو لأعين الناس جميعاً، بل راح يفكك العالم إلى عناصره، ويعيد
بناءه من جديد، لأن الرؤية الدارجة فقيرة وضيقة بشكل لا يقبل نقاشاً، إن عاداتنا
الفكرية، وحاجاتنا العملية تمنعنا من رؤية الواقع على حقيقته، والشاعر الحديث يبحث
الشجرة، للحصاة، للأشياء عن معنى، إن دوره هو أن يعطيها معنى آخر، غير المعنى الذي
أسبغه الروتين الإنساني عليها، وعندئذ يوقظنا ويعدنا للدهشة. إن شاعرنا اليوم
يحاول أن يفعل ما فعله رامبو في (هلوساته)، أسمع أدونيس في مزموره الأول من ديوانه
(أغاني مهيار) ثم تذكر رامبو لتقارن بينهما: "يقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا
يرد، وأمس حمل قارة، ونقل البحر من مكانه، يرسم قفا النهار، يصنع من قدميه نهاراً،
ويستعير حذاء الليل، ثم ينتظر مالا يأتي.. حيث يصير الحجر بحيرة، والظل مدينة،
يحيا، يحيا ويضلل اليأس، ما حيا فسحة الأمل، راقصاً للتراب كي يتثاءب، وللشجر كي
ينام"(26) من مبدأ الهلوسة، والرؤية اللاعقلية (وهي جوهر الهلوسة)، تنطلق صور
الشعر الحديث، فتدخل مباشرة دائرة العتمة، وتظل غامضة، لأن المنطق التقليدي المعروف
لم يعد معمولاً به في عالم الشعر، والعقل الذي يحدد كل شيء، وينظم كل شيء، أفلس
اليوم، وفقد هيبته ومكانته التي توارثتها القرون فالتردد –والغموض- واللامنطق،
جوهر شعرنا العربي الحديث، وحين يسمع القارئ العربي هذا الشعر أو يقرؤه تأخذه
الحيرة والاضطراب أمام هذا الشعر العجيب، ومن الأمثلة على ذلك جزء من قصيدة
لأدونيس أيضاً عنوانها (مرآة الطريق وتاريخ الغصون) يقول في مطلعها:
"لا خليج المرايا، ولا وردة الرياحْ
كل شيءٍ جناحْ
طالعٌ في دمي
في الحقول
سابحٌ في مدار الفصول
حيث آخيت وجهي مع العشب
واستسلمت خطايا
لحنين المرايا
ورأيت العناصر، تبكي، وتفتح جرح
الأخوة
إنني أول البشارةْ
إنني نبتةْ من الشرق، روضة
النبوة"(27)
تطالع هذه القصيدة وسواها، فترى عناصر
مألوفة في مفرداتها، غريبة في سياقها وتراكيبها، لأنها مبنية على أرض خيالية
مسحورة، وغير مألوفة فالخليج، المرايا –الوردة-الرياح-الجناح-الدم-الحقول.. إلخ..
كلها معروفة مألوفة لكن خليج المرايا، أو وردة الرياح، أو جناح الدماء، صور لا
منطقية، لا عقلية، إنها (هلوسة) تتأملها طويلاً حتى ترشح لك ببعض الدلالات، وأنت
تستوحيها بنفسك، بجهد، من بين الكلمات –ومن وراء الصور- ويستوحي غيرك شيئاً آخر،
فالشاعر هنا ساحر، يلبس وجوهاً متعددة، يخلع أقنعة، يدخل في الطبيعة، يخرج منها
–مرة بقيثارة (أورفيوس) ومرة بعيني (ميدوزا)، يتكون العالم بين يديه أشكالاً
جديدة، يجمد الحي، ويحيا الجماد..
إذا كان شعرنا القديم قد بالغ في
الارتباط بالواقع الملموس، وتحكيم العقل، وتسليط المنطق فإن عصرنا الحديث قد ثار
على كل ذلك، وأعلن أن الشعر لا يفهم بل يوحي، ولا تحدد مراميه ومعانيه إن كان له
معان، بل يحدس بها حدساً.
ب-حشد الرؤى والأحلام:
يعتقد كثير من الشعراء والنقاد وعلماء
النفس في هذا العصر، بالعلاقة الوثيقة، والتشابه الشديد بين الحلم والشعر،
فالقصيدة كما يرى (يونغ) حلم، أو كالحلم، بنية عضوية تركيبية متماسكة، ورؤية رمزية
محكمة ملأى بمعنى ضمني، نظمت أجزاؤها وفقاً لمنطق المخيلة، إنها طاقة نفسية مؤثرة
مفعمة بلعبة المتناقضات المتوافقة، القصيدة مثل الحلم تمنحنا معرفة بأنفسنا،
وتتطلب منا أن نضع لها تفسيرنا الخاص، وهي مثله أيضاً: تكثف الزمان والمكان وتكشف
مخبآت اللاشعور، كما أنها عند بعضهم ضرب من أحلام اليقظة والاستسلام للتداعي، وقد
لعبت السريالية دوراً هاماً في توضيح هذه المفهومات، والاهتمام بها، ويلورتها في
شعرهم وكتاباتهم النظرية، كتب (بروتون) في بيان السريالية الأول يقول:
"السريالية هي آلية نفسية صرف، الغاية منها التعبير عن النشاط الحقيقي للفكر،
عن طريق القول أو الكتابة، أو بأية وسيلة أخرى، وهي إملاء الخاطر دون أية رقابة
عقلية، وبمنأى عن كل هدف جمالي أو أخلاقي، تعتقد السريالية بوجود حقيقة سامية لبعض
ألوان من التداعيات التي أغفلت حتى الآن. كما تعتقد بالقدرة المطلقة للأحلام
والنشاط الذهني المجرد، وهي ترمي إلى تفويض الآليات النفسية الأخرى تفويضاً
نهائياً، لتأخذ مكانها في حل معضلات الحياة"(28).
لقد تأثر شعراؤنا كما قلنا بشعراء
سرياليين أو متأثرين بالسريالية، أو كانوا سرياليين ثم ثأروا على ماضيهم دون أن
يستطيعوا التخلص منه، كما رأينا الدعوة إلى التركيز على "اللاوعي"
والاهتمام به في وقت مبكر من هذا القرن، ولذلك لا نستغرب أن نرى أطيافاً من
الأحلام والرؤى والتداعيات لدى خليل حاوي أو أدونيس، أو يوسف الخال أو غيرهم، مما
يدفع إلى بروز ظاهرة الغموض في شعرهم، إذ تحتشد الصورة والرموز لا لتدل على أشياء
محددة، ولكن لتومئ إلى مشاعر، أو حالات نفسية، أو أجواء فكرية –بل لا نستغرب أيضاً
كثرة القصائد المعنونة بألفاظ مثل (حلم.. رؤيا.. حلم يقظة) ومن ذلك قصيدة لأدونيس
عنوانها (رؤيا) يقول فيها:
تقنعي بالخشب المحروق
يا بابل الحريق والأسرارْ
انتظر الله الذي يجيءْ
مكتسياً بالنارْ
مزينا باللؤلؤ المسروق
من رئة البحر، من المحارْ(29)
فهذه الصور (الرؤيوية) لا بد أن تشير
إلى عالم متشح بالضباب، تبحث فيه عن مكان تستقر فيه فلا تجده، وإن وجدته فلست
بالمطمئن فيه، أنت دائماً بين شك ويقين، أي أنت في عتمة الغموض. وإذا كان أدونيس
يشير إلى مادة القصيدة بهذه الأسماء والعناوين التي ذكرناها، فإن الكثير من
الشعراء لا يشيرون إلى ذلك، لكن طبيعة المادة وعلاقة أجزائها ببعضها تكشف نفسها،
وتتعرى أمام القارئ، ومن هذا النوع من الشعر قصيدة للشاعر محمد عفيفي مطر عنوانها
(فرح بالماء) ومن فصل الخبر المقدم الأول منها نقتطف:
ألتف بالشمس، وغبار المسافات المفتوحة
أغسل جسدي بالقش
ورغوة الغضب، وخناجر العشب المسننة
وأفتضّ أختام الريح، وكمون الندى في
البراعم
يسكن النحل تحت إبطي، وبين أصابعي،
تختبئ الينابيع الخائفة
والأرض زجاجة تهشم ألوان الطيف وتذريها
على
جسدي المعلق بين الجوع والربيع
امتلئ شيئاً فشيئاً كاليقطين العسلي
الأحمر المدلى
فوق أهرامات التراب، ومصاطب
التحاريق(30).
إن هذه القصيدة (وهي نثرية غير موزونة)
شريط كامل من الصور، ولكنها ليست من الواقع المألوف، وإن كانت موادها هامة، فهي
تركيبة (حلمية) يحس عندها القارئ بأنه يعيش فوق الواقع، ومهما حاول أن يقتفي آثار
هذه الصور، ويلاحقها إلى كهوفها السحرية فإنه سيحس دائماً أن هناك عالمين: أحدهما
مضاء بالفكر والعقل والوعي، يتكون خارج القصيدة، في عالمنا الراهن، وثانيهما عالم
معتم لا تظهر فيه الأشياء ولكن أشباحها، وهياكلها الغمامية المضطربة، وهي التي
تقود خطا القارئ إلى عالم سري مجهول، يبدأ عند قراءة القصيدة وتذوقها، ثم لا ينتهي
إلى مكان محدد، وتخوم مرسومة.
جـ-النهج الدرامي:
من أهم التطورات التي ميزت القصيدة
الحديثة، تجاوزها الغنائية الصرفة التي عرف بها الشعر العربي في مختلف مراحله. لقد
كانت القصيدة القديمة دائماً صوت الشاعر المنفعل بالأحداث والأشياء، والتعبير
المباشر عن انفعالاته ومشاعره، أما القصيدة الحديثة فقد انتقلت إلى طور جديد، إذ
اصطبغت بلون درامي لا عهد لها به من قبل. واحتوت عناصر الدراما المعروفة من صراع
وحركة وموضوعية، وبعد عن التجريد، وتعدد في الأصوات والشخصيات وحوار خارجي أو
داخلي، ليس معنى هذا أن كل قصية درامية هي مسرحية يصح عرضها على المسرح، أمام
جمهور، وإنما المقصود هنا أن القصيدة الحديثة تضمنت بعضاً من هذه العناصر، وأن
الروح الدرامية فيها تكون ظاهرة، وقد تكون مضمرة، وباستطاعة القارئ أن يخمن
ويستنتج ما خفي بالوقوف والتأمل فيما ظهر واتضح، فإن صعب التخمين، أو تضاءلت الأدلة
والقرائن فقد يولد الغموض متنكراً في قناع درامي، وبعد تتبعي لعدد كبير من قصائد
الشعر الحديث تبين لي أن الغموض يدخل إليها –إذا كانت قصائد درامية- من بابين
رئيسيين: تداخل الأصوات، وخفاء الملامح، ففي تداخل الأصوات يجهل القارئ متى انتهى
كلام الشخصية الأولى، ومتى بدأ كلام الشخصية الثانية أو كيف تم الانتقال من الحوار
الخارجي إلى الحوار الداخلي أو العكس، فالشاعر الحديث يميل إلى التركيز ويعتقد أن
الإشارة أو التوضيح حشو في القصيدة، وتفصيل لا لزوم له.
وفي خفاء الملامح يجهل القارئ منذ
البداية من هي الشخصيات المتحاورة في القصيدة، فهو يرى الحركة، ويشهد الأحداث، أو
تتابع الصور، لكنه لا يستطيع تحديد "هوية" المتكلم فيها، وبذلك يعجز عن
تذوقها ومواكبة أحداثها، إن خفاء الملامح الشخصية في القصائد الحديثة شائع، ويسبب
غموضاً لا يمكن الإغضاء عنه أو تجاهله، هذه قصيدة أخرى للشاعر محمد عفيفي مطر
بعنوان (رفع القمع عن فراشة الدمع) يمكن أن نعدها مثالاً على خفاء الملامح ولعل
العنوان أيضاً مثال على الغرابة وإثارة الدهشة عند القارئ، يقول في مطلعها:
كان انتظارها الطالع في العينين
فراشتين
أو أنها ألقت على يديه صدرها المبتل
بالندى وبالمطر
أو ضمدت أوسمة الموت بنهدها العريان
أو مسحت جراحه الخثراء والسيف الذي
انكسر
بثوبها الظمآن
لانفتحت يداه مرتين
فمرة يمنحها هدية الرجوع
ومرة يمنحها الخاتم في إصبعه
المقطوع(31).
فمن هي الشخصية التي يتحدث عنها
الشاعر، ومن الذي تلقي على يديه صدرها المبتل، أو تمسح جراحه.. إلخ.؟؟ إن الناقد
المختص يعيد قراءة القصيدة مرة بعد مرة حتى يجد مفاتيحها السرية، ويدخل حجرتها
المظلمة، فيرى أشباح الشخصيات تتحرك هنا وهناك، لكنه لا يستطيع أن يمسها بيديه،
ويتحقق من معرفتها، نعرض الآن مثالاً آخر يبين ما لظاهرة الخفاء في ملامح الشخصيات
من تأثير على جو القصيدة، وجعلها مبهمة، أو غامضة، أو مضللة أحياناً. قال المرحوم
خليل حاوي بعنوان (أنتِ):
أنتِ يا فرخ الحمامْ
أنتِ يا زهر الغمامْ
وغمام الزهر في ضوء القمر
حين ينهلُّ على صحو السحرْ
***
أنتِ يا منْ تغسل الدنيا
رؤاها
وكفاها
ظلها الريانُ
عن وهج الدراري
أنتِ يا من لا تداري
لا تضام
لا تدانيها
كوابيسُ الظلامْ
والضواري
ترتوي في ظلها الريانِ
من طيب الصيامْ(32).
عمن يتحدث الشاعر؟؟ أنتِ، من أنتِ
هذه؟؟ أهي بلاده، أم حبيبته؟؟ أم هي امرأة أخرى لها تلك الصفات والطباع والأخلاق؟
أم هي ذاته المترفعة عن الدنايا، الشامخة فوق المناصب والمراتب ومغرياتها؟؟ هنا
أيضاً نجد القصيدة غامضة، وأن غموضها ناتج عن خفاء الشخصيات، وجهل القارئ بمن
تمثله القصيدة، وهكذا، فما دام الشاعر يقدم شخصياته مقنعة فإن الغموض سيلاحقها.
د-الرموز المجهضة:
إن التعرض للشعر الحديث، يقتضي
–بالضرورة- الحديث عن الرمز، (ذلك الصاروخ الهائل في سماوات الأدب الحديثة)(33)
كما يقول الناقد والشاعر الأمريكي (أرشيبالد مكليش) وفي شعرنا العربي الحديث، ما
من شاعر يكتب قصائد إلا وفي نيته حشدها بالرموز واعتبارها بنية رمزية متماسكة، فالرمز
كما هو معروف يجعل العمل الأدبي أغنى وأخصب، إذ تتعدد دلالاته، وتتشعب أبعاده،
وتظهر معانيه على مستويات عدة، والمعروف أيضاً أن شعرنا العربي القديم ذو بعد
واحد، وليس فيه استخدام للرموز بمعناها الحديث، لقد حاول بعض نقادنا المعاصرين أن
يبحثوا عن رموز فيه، ولا أخالهم قد أفلحوا في ذلك(34) وكأن محاولتهم وسيلة لإظهار
قدرتهم على الاستنباط، واستنتاج النتائج التي لم تخطر لأحد من قبل، أما المتصوفة
فهم الأقرب إلى الرمز والرمزية، ولكن بمفهوم واسع فضفاض، لا بالمعنى المحدد في
الرمزية الحديثة، ومذهبهم في الترميز أن يتفقوا فيما بينهم على رموز خاصة، ذات
علاقة بطريقتهم وسلوكهم وتدرجهم في الرقي الروحي، ويدخلوها في شعرهم ونثرهم
(كقصائد ابن الفارض، أو الحلاج، أو مؤلفات ابن عربي الشعرية والنثرية) ومن أراد
الولوج إلى عالمهم الباطني الروحاني فعليه أولاً أن يعود إلى كتبهم للتعرف على
مصطلحاتهم ورموزهم فهي مفاتيح عالمهم المجهول، وإذ ذاك يجد المعادلات المحددة لتلك
الرموز، وهذه الطريقة تختلف كثيراً عما يفعله الشعراء المعاصرون، لأن هؤلاء لا
يتفقون على رموز معينة لها دلالات محددة، وإنما يشحن الشاعر الحديث أية لفظة
بدلالة رمزية حين يربطها بتجربة شعورية معينة لديه ثم يخلق لها السياق الذي يكفل
وضعها في صورة حسية مبطنة بالدلالة المعنوية غير المحددة، فالرمز ابن السياق وأبوه
كما يقول الدكتور مصطفى ناصف(35) وهو صورة مكتفية بذاتها. وإن تضمنت مستويات
متعددة من الإيحاءات والمعاني، فإن أدركت مستوياتها جميعاً كانت متعتك أعظم وأعمق
وإن اكتفيت بمستوى واحد، فإنك لم تخرج من الوليمة فارغ الكفين والمعدة، لقد حصلت
على بعض الزاد، إن السياق هو المسؤول عن إيحاء الرمز، هذه الحقيقة أدركها كبار
شعرائنا فأغنوا بها روائع شعرهم وقصائدهم، لكنهم أخفقوا في قصائد أخرى ولم يستطيعوا
خلق السياق المناسب للرمز، وجاء المقلدون فاعتقدوا أن الشاعر يسمي الأشياء بما شاء
من أسماء. فإذا بها رموز حية تتحرك وتوحي، وجهلوا الدور الفعال، ومظهر الخلق
والإبداع للسياق، فجاءت رموزهم مجهضة، لعدم ولادتها ولادة فنية سليمة، وتحولت إلى
ما يشبه الألغاز، وتحجرت على مدلولاتها، وعجزت عن الإيحاء، وبكلمة، لقد أخفقت وأدت
إلى غموض لا جدوى فيه، ولا طائل خلفه، ومثالنا على هذه الرموز المجهضة قصيدة
للشاعر قاسم حداد بعنوان "تاريخ الومض" يقول في مطلعها:
هذا هو الشاحب الصوتِ
يشحذ تاريخه
شاخصاً في خراب يؤرخ
يرخي رواياته
يستعيد الوميض الذي لم يمت
الوميض الذي لا يموت
شاخصاً في السكوت
الحنين الرمادي مستنفر
قيل ماتوا/ وقيل انتهوا
من يؤرخ/ كان الرماد
بروجاً من الماء مرخية/ من يؤرخ للماء
من يحتفي
النهر يستغرق في نشيح البيوت
شاخصاً في السكوت المؤجج
مستسلماً للوميض(36).
هذه قصيدة غامضة، وغموضها من الرموز
المجهضة فيها، لنأخذ رمز الومض، بماذا يرشح؟؟ إنه لم يمت، لن يموت، النهر في
استغراقه وشخوصه مستسلم للوميض، ماذا يريد الشاعر بهذا الرمز؟؟ لقد عجز الشاعر عن
وضعه في سياق فني موح، فتحول إلى ما يشبه اللغز، ليس هذا الشاعر هو المخفق الوحيد
بين شعرائنا المعاصرين، إن صحفنا ومجلاتنا تطفح بالرموز المخفقة.
نظرة أخيرة:
بعد حديثنا المطول عن الغموض في ماضي
الشعر العربي وحاضره، أرى أن من متممات هذا البحث، الوقوف على آراء نقادنا
المعاصرين حول أسباب الغموض، ومعانيه وقيمته، واختلافهم أو اتفاقهم على كل مسألة
من هذه المسائل.
أسباب الغموض:
إن من يتحرى أسباب الغموض لدى النقاد
والذين اهتموا ببحثها يجد أن آراء أو وجهات نظر متعددة طرحت على الساحة الأدبية
وتبنّى كلاًّ منها ناقد أو أكثر، ولسوف نلم بأبرزها:
**يرى الأستاذ أنطون غطاس كرم في كتابه القيم
(الرمزية والأدب العربي الحديث)(37).
-وقد استعرض آراء الغربيين –أن للغموض ثلاثة أسباب
جديرة بالذكر:
السبب الأول يتعلق بالقارئ، فقارئ
الشعر في عصرنا الحالي مستعجل دائماً، لم تترك له الحضارة الآلية الحديثة، وقتاً
للنظر المتروي، والتأمل الهادئ، والتفكير العميق، وتنقصه المؤهلات الثقافية
والتمرس معاً، لذلك اتسعت الهوة بين الشاعر والقارئ، وشعرنا في هذا العصر جديد،
غير مألوف، ولا جرت بمثله العادة، فمن الطبيعي أن يراه القارئ غامضاً.
السبب الثاني يتعلق بالقصيدة ذاتها فيه
تكتب في ظروف معينة، وملابسات خاصة، فإذا تغير الزمن، وتباينت الظروف والملابسات،
تحولت معانيها وصار لها دلالات مبهمة، فتبدو القصيدة غامضة.
والسبب الثالث يتعلق بالشاعر ومذهبه
الشعري، فالرمزيون مثلاً يعتقدون أن المعنى في القصيدة ليس محدداً، واحداً، لأن
الكلمات في رأيهم لا تؤدي معنى خاصاً، حاداً، بل توقظ حالة نفسية، وعبارة
"حالة نفسية" في شعرهم ترادف كلمة (معنى) في شعر الكلاسيكيين والقدماء،
ويزداد الغموض كلما تباعدت نفسية القارئ وتجاربه عن نفسية الشاعر وتجاربه.
**ويرى الدكتور شكري عياد الذي عالج مشكلة الغموض في
مقال سماه (الغموض في الشعر الحديث)(38) يرى أن الغموض ثلاثة أسباب أيضاً:
السبب الأول هو اعتماد الشاعر على
ثقافته، فشعراء عصرنا –كما يقول- قراء نهمون يستمدون موضوعاتهم في أكثر الأحيان من
قراءاتهم صحيح أن الشاعر لم يكن قط بمعزل عن ثقافة عصره وبيئته، ربما طوال
التاريخ، ولكن تجربته المباشرة ظلت هي المصدر الأهم لفنه خلال تلك العصور أما الآن
فقد اختلف الوضع وحلت تجربة الشاعر الحيوية بجانب ثقافته المتضخمة.
والسبب الثاني هو موقف الانسحاب.
فالشاعر الحديث في محاولته الدائبة للفكاك من (ذاتيته) يجد نفسه عاجزاً عن إذابتها
في المجموع، فهو ينسحب من حياة المجتمع، ويرفض في الوقت نفسه ذلك الانسحاب، فيضطر
إلى أن يخلق من فنه عالماً خاصاً مستقلاً عن تجارب الحياة اليومية.
وأخيراً فالسبب الثالث هو التركيز
الشديد، إذا جعل الشاعر الحديث من ثقافته رموزاً يصعب فهمها على غيره، فتجاربه مع
الأفكار في المقام الأول، لا مع الوقائع لذلك تبدو رغم أصولها الموضوعية، أشد
ذاتية من تجارب أسلافه، ويبدو تعبيره أيضاً كأنه ينحت من صخر، لحيرته بين نوازع
كثيرة لا يستطيع تحديد موقفه تجاهها، فيعمد إلى التركيز.
**ونضيف –من جانبنا- إلى ما تقدم سببين كان لهما
تأثير في دفع شعرنا العربي الحديث باتجاه الغموض. الأول منهما يتعلق بظروف المجتمع
العربي السياسية والاجتماعية، فلقد قامت في كثير من الأقطار العربية، في فترات
سابقة –أنظمة حكم، ترفض حرية الكلمة، وتفرض الرقابة الشديدة على كل كلمة تقال
ضدها، أو تغمز من شأنها، فوجد عدد من الشعراء أنفسهم مضطرين إلى التعمية،
والتغطية، والمواربة في التعبير والقول، ولا نذيع سراً إذا ذكرنا الاضطهاد الذي
عاناه شعراء أمثال أمل دنقل في مصر، أو السياب والبياتي في العراق، أو الفيتوري في
السودان. والسبب الثاني يتعلق بشعراء الجيل التالي للرواد (جيل الرواد يشمل
السياب، البياتي، أدونيس. إلخ) إذ قعدت ببعضهم مواهبهم أو قصرت بهم ثقافتهم عن
اللحاق بالنوابغ المبدعين فعمدوا إلى الغموض حتى درجة الألغاز والتعتيم الكامل
ستراً لقصورهم أو تقصيرهم، وسوغوا انعزالهم وتقوقعهم، بالترفع عن الجماهير
(الجاهلة) حسب تعبيرهم وطالبوا القارئ -بتعال- أن يعمق ثقافته، ويطلع على الآداب
العالمية ومذاهبها الفنية – التي ربما كانوا يجهلون غير أسمائها وشعاراتها- ليرقى
بعدئذ إلى أدبهم (الرفيع) فيستوعبه.
ثانياً: معاني الغموض:
كانت كلمة الغموض عند نقادنا العرب
القدماء، تعني عدم الوضوح، وتشمل ضروب التعقيد اللفظي والمعنوي جميعاً، وبالعودة
إلى الموشح للمرزباني، أو الموازنة للآمدي، أو الوساطة، أو أسرار البلاغة.. إلخ..
يظهر هذا المعنى الذي أشرنا إليه واضحاً، لا لبس فيه، أما في نقدنا العربي الحديث،
فقد صار للغموض معان أكثر تشعباً وتبايناً، إلا أن أكثرية النقاد عندنا يعنون به
أن تحتمل القصيدة تأويلات مختلفة، وتتضمن مستويات متعددة، مستفيدين في ذلك من
الفهم الرمزي للإيحاء، وعدم التسمية، يقول أدونيس(39):
"إن ما نسميه غموضاً في القصيدة هو كونها
متعددة الأبعاد، وليست وحيدة البعد" ومرة أخرى يضيف: "أعود فأقول أنني
أسمي الغموض بأنه نوع من تعدد الأبعاد في القصيدة الواحدة، مما لم يألفه
القارئ". ويقول الدكتور عبد الغفار مكاوي(40):
"إن الغموض هو مبدأ جمالي من مبادئ الشعر
الحديث ومهمة اللغة فيه: أن تفصح عن المعنى وتخفيه في آن معاً". وهناك طائفة
من النقاد تفرق بين الغموض والإبهام في الشعر، وترى أنهما شيئان مختلفان، فالدكتور
عز الدين إسماعيل(41).
مثلاً، يرى أن الإبهام "صفة نحوية
بصفة أساسية، أي ترتبط بالنحو وتركيب الجملة، وهو مشكلة لغوية قائمة في طبيعة
التركيب اللغوي نفسه" ويرى أيضاً أن "الإبهام لا يمثل ضرورة فنية، ومن
السهل أن نعده صفة سلبية في الشعر، أي شيئاً معيباً".
أما الغموض عنده "فهو صفة خيالية
في الشعر تنشأ قبل التعبير والصياغة" وهو خاصية في التفكير الشعري، وليس في
التعبير الشعري، ومصدر الغموض عنده أيضاً: قيم الألفاظ الصوتية الصرف التي لا معنى
لها، وسحرها اللاعقلي، وكذلك تقديم الخيال على العقل، والعاطفة على المنطق في
الشعر، في حين يرى الأستاذ أنطون كرم(42) رأياً مختلفاً، فالإيهام عنده غير الغموض
أيضاً، لكن (الغموض) قد يكون نتيجة من نتائج الإبهام، فبينما تنطبق كلمة غموض على
القصيدة بكاملها، تستعمل لفظة إبهام لعدم التنويه الكامل بالشيء الواحد فيها،
الإبهام متعمد ومقصود لدى الرمزيين فهو من أهدافهم، والغموض ليس كذلك فهو نتيجة
غير مقصودة، لا هدف من الأهداف وفي الوقت الذي تعتبر طائفة أخرى من النقاد أن
الإبهام إغلاق تام وتعمية شاملة، يعتقد سواهم عكس ذلك فالإبهام موح شفاف، والغموض
تعتيم شامل.
بقي أن نشير إلى تداخل آخر بين الغموض
والصعوبة، إذ تحل إحداهما محل الأخرى لدى بعض الدارسين، ويؤثر بعضهم "أن
يجعلهما صفتين مرتبطتين ارتباطاً كيفياً، لا ارتباطاً بالضرورة"(43).
ثالثاً: قيمة الغموض:
لقد ميز النقاد دائماً بين نوعين من
الغموض: نوع يمثل قيمة إيجابية، ونوع يمثل قيمة سلبية، فالأول يتعبك في التفكير،
لكنه يعود عليك بفائدة تستحق العناء، إذ يسخو بكل جديد رائع، والثاني يخفي فقراً
في التفكير أو الإحساس، ويغطّي ضحالة في المعنى وكأنه يعمل على مبدأ (الغموض
للغموض) وربما خفي التمييز بين النوعين على القارئ العادي، وكان ذلك مدخلاً
للأدعياء والمزيفين، فحسبوا من المبدعين والمجددين، لكن النقاد الممتازين هم الذين
ينهضون بأعباء التمييز بين النوعين الغموض المذكورين وقال: "وإنما يزيد الطلب
فرحاً بالمعنى، وأنسابه، وسروراً بالوقوف عليه، إذا كان ذلك أهلاً- فأما إذا كنت
معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز فالأمر
بالضد مما بدأت به، ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم، ما يتعبك ثم لا يجدي عليك،
ويؤرقك ثم لا يروق لك"(44) وهذا رأي سديد يطرحه ناقدنا العربي الكبير، كلما
أطلت النظر فيه والتأمل في معناه زدت اقتناعاً بصحته وأهميته، وفي الحاضر كتب كثير
من النقاد في تقويم الغموض لكنهم لم يتفقوا على رأي موحد سديد، وتباينت آراؤهم في
قيمتها: بعضها رصين متزن، وبعضها متعنت أو متطرف، أدونيس مثلاً يؤيد الغموض في
الشعر، لكنه لا يقبله على علاته، بل يشترط له شروطاً جادة ليكون مقبولاً فهو يقول:
"على أن الغموض في القصيدة هو بذاته قيمة إيجابية، لكن بشرط أساسي هو أن يكون
لهذه القصيدة حضور فني خلاق، ذلك أن كل حضور فني خلاق يتسم بالغموض، بمعنى ما،
وبهذا المعنى حصراً يمكن القول أن الغموض بحد ذاته قيمة إيجابية"(45). فهنا
نجد حكماً فنياً متزناً، ومحاكمة دقيقة، واعتدالاً في الرأي، وبعداً عن التطرف
والإسراف، أما الدكتور عز الدين إسماعيل فقد تحمس للغموض دون أية شروط، وسوغ
الدعوة إليه بعدة حجج، منها أن الغموض في الشعر عودة إلى الأصالة والشعر الحقيقي،
أيام كان مرتبطاً بالسحر، والأساطير، والعقلية البدائية، والعلاقات اللامنطقية
وهذه كلها تؤدي إلى الغموض وتجعله قيمة إيجابية لا تحفظ بشأنها(46) ويؤيد هذا
الرأي أيضاً الدكتور عبد الغفار مكاوي في كتابه (ثورة الشعر الحديث).
أما نحن فنرى أن الغلو في تفضيل الغموض
والمبالغة في تأييده والدعوة إليه، تفقد الفن بداهته وعفويته، وتنتزع الحس من
القلب لتضعه في الدماغ، "ذلك أن الوضوح من أركان الفن، وعنصر ملازم لجماله،
وبفقدانه يكون الشعر كفن، قد خسر ركناً من أركانه الرئيسة"(47). على أن هناك
نقاداً آخرين حملوا لواء الثورة على الشعر الغامض ودعاته ومذاهبه (كالرمزية
والسريالية) ونستطيع أن نعد العقاد ممثلاً لهذا الاتجاه النقدي، فقد كتب يفند
الرمزية ويتهمها باتخاذ "الرمز للرمز، والغموض للغموض، والتلفيق
للتلفيق" شعاراً لها، فخرجت بذلك على حد الاعتدال، وسلامة الذوق، وقال:
"الأدب لا يستغني عن الوحي والإشارة، وأبلغ الفن ما يجمع الكثير في القليل،
ويطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة إلى المعاني البعيدة التي تومئ إليها الألفاظ
ولا تحتويها بجملتها إلا على سبيل التقريب والتنبيه، ولكن هذه المدرسة غلت وتمادت
حتى قام من دعاتها من يجعل الغموض والتعمية غرضاً مقصوداً لذاته، وإن لم يكن من
ورائه طائل"(48).
بعد هذه الجولة الطويلة والعريضة، في
صحارى الغموض الشاسعة، وبحاره المترامية المتباعدة، أقف في محطة استراحتي الأخيرة
لأقول للقارئ الكريم الذي تابعنا في هذه الجولة، عسى ألا تكون رحلتنا متعبة ولا
طائل وراءها أيضاً.