-->
صدى المعرفة صدى المعرفة

جمالية النص الشعري :دراسة الايقاع والتداخل اللغوي

تؤلف اللغة وعلاقاتها وأسسها من نحوها وصرفها، أداة الشاعر وعدته في آبتداع نصه الشعري، والتعبير عن تجربته كونها الوسيلة الدلالية وأداة التوصيل للآخرين، وكلما كانت لغة  الشاعر واسعة وسليمة كلما سهلت عليه عملية التعبير، والعكس بالعكس، فاللغة الوعاء، به يتوسل الشاعر ابلاغ خطابه الشعري، والافصاح عن انفعالاته، وهذا الاطلاع على اللغة وآستيعاب مفرداتها وأصولها غير كافٍ، فهو بحاجة ماسة الى معرفة ما يخلقه النحو من معانٍ تفيد التعبير النفسي، وتبعث إيقاعه الدال الجديد المبتكر، فضلاً عن ما تخلقه العلاقات الداخلية والخارجية للمفردات التي يُعد تنظيمها بنسق سليم خاصية يتفرد بها شاعر دون غيره، لأن المفردة تعني الدلالة على مدلول، وهي مادة النثر، أو العمل الوظيفي للكلمة” مما يجعل القصيدة بنية رمزية قائمة على تنظيم لفظي… فاصبحت تشكيلات الكلمات هي التي تخلق القصائد، وليست الاغراض كما كان سابقاً،ان اختيار المفردة الدالة من الناحية الايقاعية على مرتكزات التجربة الشعرية، تؤلف بؤورة التشكلات الفنية والذهنية، وهي العنصر الذي يتجلى فيه مكتنز القدرة التفجيرية للمعنى، على وفق ما يحمله من دلالات ورموز وصور في فضاء إيحائي واسع ومتداخل، ذي قدرة على التوليد والانزياح، وتثوير الإنفعال، للانتباه الى الصوت، وعدّه عنصر قوة الايقاع، والكشف عن ماهيته، ولا نقصد صوت الحروف والمفردات المجرد، إنّما تلك الطاقة الصوتية العميقة المعبّرة عن شحنتها التعبيرية، وما تتيحه للشاعر من الهام إبداعي، وفضاء متسع لهذا الالهام، وهكذا آنزاح مفهوم الصوت الى مجالات أوسع في ميدان الايقاع، وصار ايقاع اللغة الشمولي هو الأهم والأوسع تأثيراً، ويلحظ أن روح الايقاع تكمن في قدرة الشاعر على اكتشاف مافي لغتنا العربية من روح موسيقى رفيع وشامل، وتوظيفه في تجربته الشعرية، مستفيداً مما يخلقه الاعراب من أصوات وبنى تتحد مع المعاني لتعبر عنها وتمنحها زخماً نغمياً دالاً، وليس بخافٍ أن من وظائف النحو الاساسية ربط الصوت بالمعنى والدلالة عليه،وعندما نتأمل الاصوات بتكراراتها وتناوبها معتمدة على الطاقة الموسيقية للكلمات وعلاقاتها يتشكل الايقاع المعتمد على نظام مشترك من البنى الصوتية والشكلية والدلالية، وكلما كان النظام الايقاعي متماسكاً مستنفداً لفاعلية الصوت ومعاني دلالية، والصوت هو الايقاع “ممثل الوزن في عملية التوصيل، وهو أشد ما تحتاجه القصيدة الحديثة، لما تحويه من حالات إنفعالية وتداعيات وأفكار، ولا يمكن أن يحقق لفظ المفردة بذاتها نمطاً ايقاعياً معبراً، وإنما ينشأ”من علاقته بالالفاظ التي تسبقه مباشرة والتي تتلوه مباشرة و(ثانياً)  من علاقته العامة بسائر السياق… وهذه علاقة اكثر غموضاً، وهناك مصدر  لموسيقى اللفظ هو علاقة معناه المباشر في السياق الذي ورد فيه بمعانيه الأخرى في السياقـات الأخرى، أي درجة اللفظ في إحداث ترابط الخواطر،.والشاعر بعد أن أملت عليه تجربته إيقاعاً معيناً مفرداً أو متنوعاً لا يجد بداً من البحث عن كلمات ذات خواصٍ صوتية مترابطة تعبر عن تلك التجربة، وتبعث زخمها الدلالي الجديد، وهذا الاختيار لايكون اعتباطياً دائماً يعتمد على  قدرة إنتقائية فائقة، فضلاً عن قدرة المزج والتأليف والتنسيق، إذ يستغل طاقات الكلمات استغلالاً كاملاً، وينقل الايقاع الى درجة أُنموذجية في التعبير، فالشاعر إذن يقوم بترتيب اللغة على وفق بنى إيقاعية تصوّر الأحاسيس أو توفر لها تراكيب وزنية أو نغمية تتسامى بها نحو الدلالة الانفعالية في أدائية التشكل النحوي، فعلى رأي العقاد أن”هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الاصوات الموسيقية، وتستقر في مواضعها المقدورة على وفق الحركة والسكون في مقاييس النغم والايقاع، ولها بعد ذلك مزية تجعلها قابلة  للتقدم والتأخير في كل وزن من أوزان البحور، لأن علامات الإعراب تدل على  معناها إذا كان المعني موقوفاً على حركتها المستعملة الملازمة لها، وليس هو بالموقوف على رص الكلمات كما ترص الجمادات، وان هذه الموسيقى لتعلم النحاة أحياناً كيف ينبغي أن يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة لأن المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من المصطلحات التي تقيّد بها النحاة والصرفيون،ويشترك الايقاع والوزن في آعتمادهما على التكرار، وفي بناء الفضاء الموسيقي للنص الشعري، ويمكن أن نعد الايقاع بؤرة الارتكاز في اللون الموسيقي للسطر الشعري والبيت والقصيدة، وهو جزء منه إذ يعتمد على تكرار المقاطع الصوتية، في حين يعتمد الوزن على مجموعة من الايقاعات، ليشكل بنيته الموسيقية الخاصة، وبتعبير أدق يتحدد الايقاع بأنه تكرار نغمة معينة في السطر أو البيت ويعني توالي الحركات والسكنات بشكل منتظم لأكثر من مهمة، أما الوزن فهو مجموعة التفعيلات التي تؤلف الميزان الموسيقي للنص الشعري،ويتأتى فضل الايقاع من كونه يهب الصوت دوراً دلالياً، من خلال خلق علاقات ايحائية متغيرة تفضي اليها”خصائصه النسبية والسياقية كدرجته علواً وانخفاضاً ومداه طولاً وقصراً، ونبره قوةً وضعفاً، وتردده في التركيب اللغوي قلة وكثرة، وتلك خصائص نلحظ فيها طريقة النطق بالصوت (بالأضافة) الى السياق الذي ورد فيه، والنسق اللغوي الذي تضمنهُ مع غيره، فيؤلف مقوماً حيوياً في بنية جمالية النص من جهة، وتحطيم آلية التوقع، ورتابة التلقي من جهة أخرى، اما الوزن فيكون رتيباً مملاًّ ، لا تكسره الاّ علل وزحافات لا تفجأ المتلقي، لأنها تنشأ في دائرة ضيقة، ولا يمكن أن يكون أكثر من شكلٍ وإطارٍ لتجربة شعرية، تعبر عن نفسها بآختيارها وزناً معيناً يعتمد على نظام ايقاعي، يغني الافكار ويجسد التجربة، ببنية دلالية حيوية  فعّالة، فالأوزان معدودة لكن الايقاعات وأنماطها وصيغها ومدياتها كثيرة ومتنوعة، وليس أدلُّ من أننا نقرأ قصائد على وزن واحد، لكنها مختلفة في إيقاعاتها، ومع هذا كله فان الوزن نظام لاستيعاب التجربة الشعرية، ولكل وزن حظه فيما يناسبه من هذه التجارب، ولو كان لوزن ما القدرة على استيعاب التجارب المختلفة كيف ما تكون، لما حدث أن وجدنا ستة عشر بحراً،ونجح الشعراء المحدثون في آستثمار طاقة الوزن في إشاعة روح الايقاع، في مساحة القصيدة الحديثة للتعبير دونما قيود ثقيلة، تفرضها حالات الكم وشبكة التعقيد، وتقليدية النمط، فأخذ الايقاع دوره مستفيداً من فضاء الوزن ودوائر العروض التي لم تُستنفد كل طاقاتها، ولم تجد بعد أن وضعها الخليل مَنْ يسبر غورها، ويطلق أوزاناً جديدة،وتتحدد طبيعة الايقاع في النص الشعري بما تتشكل منه خاصية هذا النص، التي تفرضها تجربته الخاصة، ولغته المعتمدة، وعلاقاتها وعناصرها، وصوره وأخيلته، ومن ثم الوزن والنظام، وكلما كانت هذه العناصر متوحدة متآلفة متفاعلة. كلما أصبح الايقاع مؤدياً لوظائفه الفنية والدلالية، ولكي يعبر الايقاع عن روح القصيدة فهو يتحرك رافضاً الرتابة، نامياً مع حركة التجربة الخاصة، مصوراً لها ومتمثلاً، معبراً عنها مستلهماًَ لكنهها، يبتدع لذاته أنماطاً، ويتخذ لتناميه أشكالاً، حتى يصل الى ذروته التي يمكن أن نطلق عليها مرتكز النظام النغمي أو بؤرته، وعندما نتقصى أنماط الايقاع ويبرز لنا الايقاع الصوتي نمطاً أساسياً في بنية القصيدة، ومن خلاله يتصرف الذهن المتذوق لجمالية الصوت وموسيقى النص الى صوتية القصيدة ـ المبنية على مجموع العلاقات والقيم الصوتية ـ قبل محاولته التعرف أو آستقراء الصيغ الجمالية،وعناصرالشاعريةالاخرى المتولدة عن المفردات وتفاعلاتها ـ وتكمن “عبقرية الشاعر في أنه لا يقيد بالقواعد ولا تقف دون انطلاقته الفنية حدود، ويمكن أن يكون تأثير الشعر كما هي الموسيقى جعل الكثيرين يعدونها معاً ” الأفيون والحشيش في تأثيرهما على  السامع والمتلقي، لذلك تحسَّب لها شعراء كثيرون فضاعوا في بهرجة الأصوات وزينتها، وآستأثرت باهتمامهم الشديد حتى أهملوا الجوانب الأخرى في مقومات القصيدة، معتقدين أن سر جمالها يكمن في سحرها الصوتي عودة الى سحر البلاغة، على حساب ما يحسه الشاعر أو يعانيه أو يفكر فيه ـ على حساب وجدانه وانفعالاته ـ وتكون الصورة جميلة إلا أنها ضعيفة الايحاء قادرة على إثارة آنفعالات المتلقي،لأن الجمال الحقيقي”هومايؤدي الى توازن في الحواس ولابد أن ينتبه الشاعر المبدع الى علاقة التوازن بين ما يحسه وما ينتجه من الشعر أو القول وأن تكون لغته صورة من وجدانه وآنفعالاته أي أن المتلقي يستطيع التنقل بين خفايا نفس الشاعر، ويتلمس بيقين معاناة الشاعر وصورة الطقس الشاعري الموحي بالقصيدة، وكلما كانت لغته صادقة ومعبرة عاش المتلقي الفضاء الدلالي والفني مرة واحدة، وأدت به الى الانسجام معها، والتعبير عنها ولا يتم هذا التفاعل إذا كانت لغة الشاعر مزيفة وغير صادقة، ولا يمكن أن يقدم لنا الجمال السطحي الا لحظة عابرة، سرعان ما تذوي وتذوب، بينما يقدم لنا الجمال حالات الابداع والتألق من خلال لغة جديدة، ترتبط فيها طبيعة الاصوات مع دلالاتها السياقية والتناسبية، حيوية وجود جديد يفرضها نغم التعبير وإيقاعه، الذي يعد منفذاً “الى الشخصية أكثر صدقاً ودلالة من ملامح الوجه،ولم يفت حازم القرطاجني وهو يتحدث عن الايقاع وأثره في النفس حتى عد نجاح النص أن لايكون الا بتوافره وجودته، ويرى أنه شرف الشعرية وقيمة الابداع ويقول: “لأنا نشترط في نظام الشعر أن يكون مستطاباً، ويتمثل عنده بـ ” تماثل الاسجاع والقوافي لأن في ذلك مناسبة زائدة، وفي ذلك  اختلاف مجاري الأواخر، واعتقاب الحركات على أواخر أكثرها، ونياطتهم حرف الترنم بنهايات الصنف الكثير الواقع في الكلام منها، لأن في ذلك تحسيناً للكلام بجريان الصوت في نهاياتها، لأن التنفس في النقلة من بعض للكلمة المنوعة المجاري الى بعض على قانون محدود، راحة شديدة واستجداداً لنشاط السامع، بالنقلة من حالٍ الى حال، ولها في حسن اطراده في جميع المجاري على قوانين محفوظة قد قسمت المعاني فيها على المجاري أحسن قسمة، تأثر من جهتي التعجب والاستلذاذ للقسمة البديعة والوضع المناسب العجيب، فقد أكد قدامة بن جعفر على الايقاع وأولاه آهتمامه من ناحيتي الزمان والمكان إلا أنه ركز على  الجانب الشكلي مؤكداً فضله وقيمته،ويبدو أن الوعي بالايقاع يجعل التجربة الشعرية حية متصاعدة، إلا أنها تربط الشاعر بنصه من جهة، وتربط النص بالمتلقي من جهة أُخرى، وعندها يكون الايقاع العامل المشترك لحيوية النص الشعري تأليفياً وتلقياً، بعد أن وجد التجربة وربط بين عناصرها ومقوماتها، وحسبنا أن الايقاع ظاهرة مألوفة في طبيعة الانسان، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً  بطبيعة الحياة والقلب والتنفس، وهو أداة الشعر الخاصة بالاستهواء بل أن التأثير الشعري يتألف من الحركة الاساسية للايقاع وذلك من خلال الأصوات المنتقات والتعبيرات الايضاحية الصارمة،ولكي يتمكن الشاعر من امتلاك قدرة تكوين الايقاع المنسجم بتجربته المعبر عنها، لابد له من أن يمتلك وسائل هذه القدرة، ليتوسل بها ويسخرها في خدمة نصه، ومنها الحرف والمفردة والاسلوب والنظم والوزن والقافية، بمعنى أنه يمتلك لغة الشعر، ويسيطر على عناصرها ويستطيع تسخيرها لابتداع القول الفني الممتلئ بالايقاع النغمي المعبر عن نفسه، النافذ الى الأفئدة قبل الأسماع، فاذا ما عرف مكان جمع اانغام وزمانها، تمكن من ابتكار ضروب من التأثير عديدة ومتنوعة، تعتمد تنسيق الأصوات والصورة، فتصبح لديه اللغة ضرياً من الموسيقى.إن القصيدة الفذة تلك التي تكون عملاً فنياً متكاملاً، يحقق التأثير الجمالي والفني في المتلقي، إذا تلاءم شكلها ومضمونها في وحدة منسجمة الافكار والمعاني والأوزان والانغام، واذا ما تم هذا فانه يعني توافر إيقاع الدلالة المعبرة عن التجربة بمدياتها كافة، ويدخل في صلب التمكن من اللغة ومعرفة خصائصها الموسيقية  التعرف على الحروف وأصواتها وخصائصها، لأن “الانسجام بين دلالات الالفاظ المعنوية وبين أصوات حروفها يكون روح العمل الفني وجوهره الجمالي الفذ”( ) وتبرز أهمية اللغة أيضاً في أهمية الموسيقى في الشعر لأن الايقاع يعتمد أساساً على الحرف والكلمة والجملة وعلاقتها الحميمة بالعاطفة وذوبان الواحدة في الأخرى، لهذا يكون آختيار المفردة مبني على معيار طبيعتها التكوينية من جهة ، ومعاني دلالاتها الابداعية المجازية من خلال ما تؤلفه مع ما قبلها وما بعدها من جهة أُخرى، وهذا هو الفرق الجوهري بين الشعر والنثر، فالشاعر يقدم ويؤخر ويحق له القلب والابدال والوقف والتسكين والتحريك.
ولقد انتبه عبد القاهر الجرجاني الى الألفاظ وأقيامها الصوتية، فرأى أن الحسن في العبارة راجع الى ترتيب الالفاظ في الكلام على موجب ترتيبها في الفكر، ولا يعني هذا حالة مبتسرة مجردة، فالألفاظ بجرسها المستحدث وإيقاعها الداخلي تنقل أُنموذج المعنى عن طريق الايحاء والإشارة، وتحفّز التوتر الى تركيب إنفعالي، وليس التركيب الطبيعي، ويبدو أن العلاقة جدلية بين الأيقاع والتعبير عن صورة نفس الشاعر، وتساوي التحام الصوت بالمعنى، ولكي يكون الايقاع منسجماً مع صورة النفس يؤديه الصوت كما يؤدي المعنى صورة النفس فان السكينة تكون ذات دلالة مرتبطة  بضربات القلب وحركة التنفس شهيقاً وزفيراً واستراحة، والسكينة لها فضاؤها فهي مجال زمني بين الأنغام، وعليه فلابد من أن نعدها جزءاً من الايقاع، ولانعني بها الصمت بل هو السكوت المحسوب ضمن عددية الايقاع وتواليها وتتابعها ، وهي أيضاً لحظة ترقب المتلقي لأستئناف الايقاع، “والسكوت ليس بكما بل رفضاً للكلام في نوع منه


علاء عبدالخالق المندلاوي

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

صدى المعرفة

2016