عرَّفنا
بالعولمة سلفًا، وتأتي العولمة إحدى حلقات سلسلة الحروب المفروضة على العربية،
ولكن العولمة حرب على جميع اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية، ولقد أثرت العولمة
تأثيرًا بليغًا في العربية، ولا يخفى أن العربية الآن - في عصر العولمة - تواجه
تحديات كبيرة جدًّا، تتمثل في تيار الإنجليزية الجارف، وهذا سوف يكون له تأثير سيئ
في اللغة العربية في المستقبل، فاللغة العربية اليوم تواجه بعض الجفاء من أبنائها،
وأصبحت بعض الألفاظ الأجنبية - وخاصة الإنجليزية - على ألسنتهم في المحادثة
اليومية؛ فمثلاً: عند الابتداء بالمكالمة الهاتفية يقول: (Hello)، وعند الانتهاء يقول: (OK) أو (Bye)، بدلاً من: نعم، ومع السلامة، كما أننا نلاحظ
أن اللغة العربية يُجرى إزاحتها من الحياة اليومية للغة الإنجليزية، سواء في
الكلام، أو وسائل الإعلام، بل حتى في لغة التعليم، وفي مجال التوظيف يفضل المتقن
للغة الأجنبية، وقد نتج عن ذلك شيوع الكثير من المظاهر الغربية، سواء من ناحية
الملابس، أو الأكل، أو السلع الاستهلاكية، ولا شك أن هذا الأثر والتخريب يؤثر في
اللغة العربية؛ لأن المناهج التعليمية دخلها الكثير من التعديل لصالح اللغة
الإنجليزية، وتتمثل مظاهر العولمة اللغوية في العالم العربي في:
1.
التداول بالإنجليزية في الحياة اليومية.
2.
كتابة لافتات المحال التجارية بالإنجليزية.
3.
التراسل عبر الإنترنت والهواتف النقالة بالإنجليزية.
4.
اشتراط إتقان الإنجليزية للتوظيف.
5.
كتابة الإعلانات التجارية بالإنجليزية.
6.
كتابة قوائم الطعام في المطاعم بالإنجليزية.
7.
كثرة الأسماء الإنجليزية والمفردات في حياة المتكلم العربي.
ويقول
الدكتور أحمد الضبيب: "ويكفي أن نعرف أن اشتراط إجادة اللغة الإنكليزية -
سواء كانت ضرورية للعمل، أو لم تكن - قد وقف حائلاً أمام المواطن العربي في
منطقتنا العربية دون الحصول على لقمة العيش، وفتح الباب على مصراعيه لأعداد غفيرة
من الأجانب حلوا محل المواطنين، وكلف المواطن العربي الكثير؛ كي يتعلم هذه اللغة
ويجيدها، من أجل أن ينافس العامل الأجنبي، ومن المنتظر أن تُسهم هذه الشركات
العالمية العابرة للحدود في تعميق هذا الوضع، وجعله أشبه ما يكون بالأمر الواقع؛
مما يتسبب في استجلاب المزيد من العمالة الأجنبية، وسد الباب أمام المواطن العربي
إلا إذا وفَّى بهذا الشرط المجحف، الذي لا يُشترط في أيِّ بلد متقدم"[1]،
وإذا نظرت إلى دول الخليج العربي وجدت أنها تحولت إلى مجتمعات متعددة اللغات، فيها
العربية، والإنجليزية، والهندية، والفرنسية، والسريلانكية، وغيرها من لغات الوافدين
للعمل في هذه الدول، كما لم تستثمر البلدان العربية علاقاتها التجارية مع الدول
الإسلامية المتقدمة لنشر العربية، وترقيتها إلى مصاف اللغات العالمية؛ كماليزيا،
والباكستان، وإندونيسيا، وإيران.
وقد
بدأت اللغة الأجنبية تزحف على مساحة اللغة العربية في بلدانها، وتقتسم نصيبها من
مناهج التعليم العام والجامعي، مما دفع (منظمة الإيسيسكو) إلى التعبير عن قلقها
لما تتعرض له اللغة الفصحى من تهميش وإقصاء، وقد نبهت في تقريرها إلى ما تراه من
أثر في مستقبل اللغة، فقالت: إن البلاد العربية تعاني من أزمة في الهُوية؛ نتيجة
للمتغيرات التي طرأت في التركيبة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية
العربية، وقد وضعت برامج عديدة للمحافظة على اللغة العربية كهُوية للأمة، بالإضافة
إلى هوية المجتمع الوطنية والدينية، لكن التحديات كانت كثيرة، مما جعل اللهجات
المتداولة "العامية" هي المسيطرة في واقعنا العربي، وتبتعد شيئًا فشيئًا
عن الفصحى، التي سوف تصبح مثل اللغة اللاتينية يومًا ما، إذا استمرت الحال على هذا
الوضع المؤلم والمحزن أيضًا، وقد عزز تراجُعَ اللغة العربية الفصحى عدمُ وجود
آليات فعالة لنشرها ودعمها، هذا بالإضافة إلى انحسار استخدامها في قلة من النخبة
المتخصصة، التي تهتم بها من أجل المعيشة - كوظيفة - دون القيام ببحوث جادة من أجل
إعمالها في الحياة اليومية والتعليمية بشكل صحيح.
إن
الوضع الحالي للغة العربية تتداخل فيه عوامل كثيرة، ويعود في تعقيداته إلى عناصر
متشعبة، وأسباب يرتبط بعضها ببعض، وحصيلة ذلك أن ضعف اللغة - وهو واقع لا ينكر -
هو فرع من ضعف الحياة العقلية والثقافية، وبالدرجة الأولى الحياة العامة في صورها
المتعددة، وفي مناحيها المتنوعة، ولما تكون القضية بهذا الحجم، وعلى هذه الدرجة من
الخطورة، فإن الأمر يتجاوز (دائرة الأزمة اللغوية أو الثقافية)، إلى (دائرة الأزمة
الحضارية) بأبعادها السياسية، والسيادية، والأمنية، والفكرية؛ ولذلك فإن انحسار مد
اللغة العربية كان الثمرة المُرَّة لانحراف أهل اللغة نحو مآزق أبعدتهم عن مصادر
القوة الحقيقية، التي تتمثل في قوة الروح، وقوة الفكر، وقوة الضمير، وقوة الإرادة
في تحصين الذات، وفي حماية الكِيان، وفي صون الحقوق، والذود عن المصالح العليا
للأمة، وتزامن ذلك مع هيمنة الأفكار والمذاهب والنظم الغربية على العقل العربي
والإسلامي، والتي فرضت سياسات، وأَمْلَت اختيارات تتعارض مع الخصوصيات الثقافية
والحضارية للشعوب العربية الإسلامية، مع ما استتبع ذلك من شن حرب شعواء على اللغة
العربية، ينفخ في نارها بعض أبناء الضاد من جهة، ومن جهة أخرى تُشجع وتُحرض عليها
العناصر الأجنبية التي تعمل من أجل فرض لغاتها، وثقافاتها، ونُظُم حياتها على
الشعوب غير القادرة على حماية خصوصياتها؛ لإيمانها بأن ذلك هو السبيل نحو
الاستحواذ على الأمور، وتسخيرها لخدمة مصالحها الحيوية.
[1]
اللغة العربية في عصر العولمة (ص 20 - 21).