-->
صدى المعرفة صدى المعرفة

نظرية التخييل عند حازم القرطاجني

 مصطلح التخييل من أكثر المصطلحات النقدية دوراناً عند حازم القرطاجني، باعتباره أحد الخصائص الفنية المميزة للغة الأدبية بوجه عام والشعرية بوجه خاص.
والتخييل في أبسط تحديداته عند حازم هو " أن تتمثل للسامع مع لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصوّرها، أو تصوّر شيء آخر بها انفعالاً من غير روية إلى جهة الانبساط أو الانقباض".  ويفهم من هذا أن حازماً يربط بصورة جلية بين التخييل والجانب النفسي لدى المتلقي، أي أن عملية التخييل هي عملية استجابة نفسية أو إدراكية لمؤثر أو أكثر انطوت عليه الصناعة الشعرية فـ "ليس التخييل الشعري سوى عملية إيهام تقوم على مخادعة المتلقي، وتحاول أن تحرك قواه غير العاقلة وتثيرها بحيث تجعلها تسيطر، أو تخدِّر قواه العاقلة وتغلبها على أمرها، ومن هنا يذعن المتلقي للشعر ويستجيب لمخيلاته ".
وعلى الرغم من أن مصطلح التخييل هو المهيمن على استعمالات حازم القرطاجني لعناصر العملية الشعرية وتلقيها، فإن مصطلحات أخرى تتداخل معه أحياناً، وتناظره أحياناً أخرى مثل : المحاكاة والتخيُّل والقوة المخيلة والقوة المتخيلة وغيرها. فالتخيُّل يعني عنده القوة الإدراكية الفاعلة لعملية المزج بين الأشياء ، وإدراك العلاقات الظاهرة والكامنة فيها، أي أنه يرتبط بالجانب الإبداعي بالدرجة الأولى، في حين يرتبط التخييل بالجانب التأثيري ، وتحريك النفس لمقتضى الكلام، وحملها على طلب الشيء أو الهرب منه.
وقد فرق بينهما د. جابر عصفور بقوله " إن التخيل هو فعل المحاكاة في تشكله، والتخييل هو الأثر المصاحب لهذا الفعل بعد تشكله".
وهذه التفرقة بين المصطلحين تنبه إليها الفلاسفة من قبل حيث "ركزوا على فعل التخييل أكثر مما ركزوا على فعل التخيل، أعني أنهم اهتموا بما يمكن أن نسميه "سيكلوجية التلقي" أكثر من اهتماهم بسيكلوجية الإبداع".
وليس ذلك إلا لأن المتلقي هو الذي يمنح القصيدة الشعرية وجودها وتحققها؛ فبدون أن تصطدم بأذُن المتلقي ، وبدون أن ينفعل بها، تظل عبارة عن حروف مكتوبة تسوّد الصفحة البيضاء فحسب، ومن هنا يأتي دور الخيال والتخييل عند المتلقي كعلامة على فاعلية الاتصال بين طرفي العملية الإبداعية "فالخيال هو وسيلة الاتصال بين المبدع وقارئه، ولولا التخيل لظلت القصيدة صوراً ميتة لا تجد طريقاً إلى تمثلها والانفعال بها".
وعندما يتناول حازم هذه المصطلحات الشعرية يكاد يعطي كل مصطلح منها خصوصيته الدلالية، بحيث لا يختلط بغيره من المصطلحات؛ لأنه يدرك أن العملية الشعرية تخضع لعناصر أربعة تشكل مجتمعة أطراف الرسالة الشعرية؛ وهي: العالم الخارجي، والمبدع، والرسالة الشعرية، والمتلقي، وكل طرف من هذه الأطراف يقوم بوظيفة محددة أثناء إبداع الرسالة الشعرية أو تلقيها لذلك "إذا كان حديثه عن علاقة الشاعر بعالمه فإننا نجده أميل إلى استعمال مصطلح المحاكاة وحده وإذا تحدث عن طاقات الشاعر الإبداعية وقواه الابتكارية فإنه يستعمل في هذه الحالة مصطلح "التخيل" والمتخيلة" أو "المخيلة" وهو يستعمل المصطلحات الثلاثة الأخيرة نفسها في حديثه عن الطرف الثالث  ـ العمل الفني أو الشعري ـ  على أساس أن العمل الفني ينتج عن عمل تلك القوة الإبداعية...أما حين يتحدث حازم عن المتلقي  ـ الطرف الرابع في العملية الفنية ـ  فإننا نراه أميل إلى قصر الاستعمال على مصطلح واحد هو التخيل".
ولأن غاية كل عمل فني هي نقل التجربة الذاتية للمبدع إلى الآخرين، والتأثير عليهم بما يجعلهم أكثر التحاماً بالتجربة، فإن حازماً أولى التخييل عناية خاصة وأبرز دوره في إنتاج الشعرية، ومن ثم تأثيره على المتلقي وإمتاعه، بحيث يصبح وجوده ضرورة حتمية لإيجاد أي عمل إبداعي، وكل تجاوز لهذه الخاصية النوعية يقتضي تجاوزاً لهوية الشعر نفسه، ونقله إلى عالم أدبي آخر، تذوب فيه الخصائص النوعية وتتماهى .  ولذلك يؤكد حازم القرطاجني مراراً أن "المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك".
بل إنه يتمادى في إبراز دور التخييل في إنتاج الشعرية إلى حد بعيد، ويقرر  ـ كما قرر النقاد المحدثون من بعده ـ  أن النص الأدبي لا يخلو  ـ عادة ـ  من سمات شعرية أبرزها خاصية التخييل، واحتواء أي عمل أدبي على هذه الخاصية يدفع به إلى مستوى القول الشعري "فما كان من الأقاويل القياسية مبنياًعلى تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولاًشعرياً"؛ "لأن الشعر لا تعتبر فيه المادة، بل ما يقع في المادة من التخييل".
وعلى الرغم من أن التخييل هو أحد خصائص اللغة الأدبية، والشعرية بوجه خاص، فإن الاستناد إليه بمفرده للتمييز بين أصناف القول لا يخلو من إشكالية "لأن التخييل ليس شرطاً كافياً لتحديد ما هو أدبي (مادمت هناك تخيلات غير أدبية) ولكنه في الوقت نفسه شرطٌ لازم لوجوده، فبدون تخيل لا يوجد أدب" أو بعبارة أخرى كل قول شعري ينبني على التخييل وليس كل كلام ينبني على التخييل فهو قول شعري .
ومما تجدر الإشارة إليه أن مصطلح التخييل عند حازم يتجاور عادة مع مصطلح المحاكاة في مواضع عديدة من كتابه، بما يوهم بترادف دلالتيهما عنده.  ولكن بإمعان النظر في استعماله لهما يتبين لنا أمر جدير بالاهتمام، وهو أن الرجل كان يدرك طبيعة العملية الشعرية تمام الإدراك من حيث توقف فاعليتها على وجود طرفي الإبداع معاً: المبدع والمتلقي، فإذا كان التخييل يتصل مباشرة بالمتلقي بما يحدثه في نفسه من أثر، فإن المحاكاة تتصل بالمبدع باعتبار أن الأخير يحاول أن يحاكي الأشياء التي قامت في نفسه سواء بصورتها الحسية أو المجردة أو الوهمية، ويصوغها في لغة فنية جمالية، فعندما يجمع بين المصطلحين في سياق تعريفه للشعر وطبيعته يدرك ضرورة الإشارة إليهما معاً إن نشدنا الدقة في التعبير.  وبعبارة أخرى أن استعماله للمصطلحين بهذه الصورة التعاقبية ليس من قبيل الترادف أو تأكيد المعنى الواحد بقدر ما هو إشارة إلى وقوع العملية الإبداعية بين المبدع والمتلقي، وليس لدى المبدع وحده كما يُتوهم.
إن التخييل عند حازم لا يأخذ منحى واحداً، ولا يقع في أنماط تشكله على مستوى واحد، "التخييل في الشعر يقع من أربعة أنحاء: من جهة المعنى، ومن جهة الأسلوب، ومن جهة اللفظ، ومن جهة النظم والوزن" وهذه الأنحاء ليست متساوية القيمة فيما بينها ؛ فهناك تخييل ضروري وتخييل أكيد ومستحب "فالتخاييل الضرورية هي تخاييل المعاني من جهة الألفاظ، والأكيدة والمستحبة تخاييل اللفظ في نفسه، وتخاييل الأسلوب وتخاييل الأوزان والنظم، وأكد ذلك تخييل الأسلوب".
إن حازماً بهذه التحديدات الدقيقة لأنحاء عملية التخييل يكاد يلامس جوهر الوظيفة الشعرية بشقيها المعرفي والجمالي، ويشكل الجانب الأول عنده المرتبة الأولى التي ينبني عليها كل تذوق فني أو تواصل حقيقي بين طرفي العملية الإبداعية، وهو يتجسد بصورة عملية فيما يقوم في ذاكرة المتلقي من تخييل حول معاني الألفاظ ودلالتها الجزئية والكلية، وما يعقبها من توجيه لسلوك المتلقي إن قبولاً أو رفضاً.
ويزيد حازم من توضيح عملية التخييل الشعري في بعده المعرفي وتمثله في ذهن المتلقي، بتنضيد العلاقة بين أشياء ثلاثة: العالم الخارجي/ المبدع/ المتلقي وهي علاقات متراكبة تنبني كل واحدة منها على الأخرى؛ يقول:"إن المعاني هي الصورة الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان.  فكل شيء له وجود خارج الذهن، فإنه إذا أُدرِك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبّر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبَّرُ به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ".
ويدرك حازم أن عملية تخيل المعاني في الذهن لا تتوقف على عملية التلقي السمعي فحسب، وإنما هناك طريقة أخرى في إثارة التخيل في ذهن المتلقي وهي القراءة ، التي تستند في طبيعتها إلى الرسم الكتابي ، فيقوم الخط مقام اللفظ المسموع في نقل الصورة الدلالية إلى الذهن "فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ من لم يتهيأ له سمعها من المتلفِّظ بها صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيآت الألفاظ ، فتقوم بها في الأذهان صور المعاني فيكون لها أيضاً وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها".
وبما أن الأسلوب ينطوي في واقعه على عدة عناصر تدخل في تكوينه هي: اللفظ والمعنى والتأليف والإيقاع، فإن حازماً يعده من أول العناصر المساندة أو التخاييل الثواني  ـ كما يسميها ـ  وآكدها، ولولا أن الرجل قد قصر مفهوم الأسلوب في موضع آخر على الهيئة التي تحصل عن التألفيات المعنوية لقلنا إن الأسلوب عنده يمثل مجمل حقيقة التخييل في القول الشعري.
أما المُكِّون الرابع للتخييل الشعري عند حازم فيتمثل في النظم والوزن، باعتبار أن الوزن والتناسب الصوتي بين أجزاء الكلام يلعب دوراً مهماً في جذب النفوس، وإدخال السرور إليها "لأن الألفاظ والمعاني كالآلئ، والوزن كالسلك، والمنحى الذي هو مناط الكلام وبه اعتلاقه كالجيد له". وعلى الرغم من أن عناصر الأسلوب واللفظ والإيقاع والنظم تندرج في إطار التخاييل الثواني  ـ عند حازم ـ  فإن ذلك لا يعني أبداً إمكانية تجاوزها أو إهمالها في النص الشعري، فهي تأخذ دوراً أساسياً في بناء شعرية القول فـ"كثير من الكلام الذي ليس بشعري باعتبار التخييل الأول [ تخييل المعاني ] يكون شعراً باعتبار التخاييل الثواني وإن غاب هذا عن كثير من الناس".
واتصالاً بقضية التخييل يعرض حازم لقضية الصدق والكذب في الشعر، ويرى أن التخييل لا يقصد منه إلا التأثير النفسي للقول ذاته ، دون النظر إلى مطابقة ذلك القول لشيء خارج عنه "لذلك كان الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة، وتكون كاذبة، وليس يعد شعراً من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل". وبإهماله لقضية الصدق والكذب في القول الشعري يطلق العنان لدور التخييل في إنتاج شعرية القول، وإذا حدث تعارض بين التخييل والتصديق، فإن التخييل مقدم عليه أبداً "اشتد ولوع النفس بالتخييل وصارت شديدة الانفعال له حتى إنها ربما تركت التصديق للتخييل، فأطاعت تخيلها وألغت تصديقها".  وهذا ما قرره  ـ فيما بعد ـ  جاكبسون الذي يرى "أن الشعر في جميع الأحوال كذب، والشاعر الذي لا يقدم على الكذب بدون تردد بدءاً من الكلمة الأولى لا قيمة له".

قد أوضح حازم "أن من المعاني المعبر عنها بالعبارات الحسنة ما تدرك له مع تلك العبارة حسناً لا تدركه له في غيرها من العبارات، ولا تقدِر أن تعبر عن الوجه الذي من أجله حُسن إيراد ذلك المعنى في تلك العبارة دون غيرها، ولا تعرب عن كنه حقيقته.  إنما هو شيء يدركه الطبع السليم والفكر السديد، ولا يستطيع فيه اللسان مجاراة الهاجس".
مراجع المحاضرة :

الأداء الياني في السور القصار د. عقيل الخاقاني ، رسالة دكتوراه ، العراق ـ جامعة الكفة ، 2006م. طبيعة الشعر عند حازم القرطاجني ، نوال إبراهيم ، مجلة فصول م6، ع1، 1985. منهاج البلغاء وسراج الأدباء، أبو الحسن حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخواجة ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3، 1986م.

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

صدى المعرفة

2016