-->
صدى المعرفة صدى المعرفة

مشروع عبد الرحمن منيف الروائي وقفات مع خماسيات مدن الملح


وقفات مع خماسيات مدن الملح



وقفات مع خماسيات مدن الملح


مشروع منيف الروائي‏

لعبد الرحمن منيف روايات كثيرة منها: الأشجار واغتيال مرزوق 1971، قصة حب مجوسية 1973، شرق المتوسط 1975، حين تركنا الجسر 1974، النهايات 1977، سباق المسافات الطويلة 1979، عالم بلا خرائط بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا 1982، الآن هنا أو شرق متوسط مرة أخرى 1999، عروة الزمان الباهي، لوعة الغياب، أرض السواد، بين الثقافة والسياسة، رحلة الضوء، ذاكرة المستقبل و... (1)‏
كتب عبد الرحمن منيف رواياته في مشروع فكري متجدد لأنها عكست في جزئياتها فكراً حياً وخيالاً خصباً ونفساً روائياً ملحمياً تاقت إليه الرواية العربية، فتحدث عن كل شيء، ونسج الحدث من خيوط التاريخ وأسبغ عليه الكثير من الدلالات الرمزية. إنه صاحب مشروع إبداعي متجدد امتدّ مع رواية "شرق المتوسط" 1975 التي أحدثت ضجة كبرى بين أوساط القراء العرب أثناء صدورها، ربّما لأنّها لامست بشكل باكر موضوع القهر السياسي. (2)‏
لعل روايات منيف، رغم تناولها لتاريخ الجزيرة العربية تارةً، وتاريخ العراق تارة أخرى، كانت تهدف إلى مستوى أعمق، وهو المستوى الذي يشتمل على تاريخ المنطقة ككل، آخذين في الاعتبار أن "منيف" ذاته كان يحيا بلا وطن في منطقة ليس لها هم سوى الحديث عن الأوطان ليل نهار (3). فأصبحت روايته مرآةً "للوجع والألم والحزن والهزيمة والإخفاق والظلم والقهر والاستبداد وللثنائيات كالقديم والحديث، الواقع والمتخيل، البداوة والحضارة، الصدق والكذب، التفاني والإخلاص، النفاق والخيانة الثبات والفوضى. ترمز الصحراء في رواياته إلى فضاء الذات العربية على حين يرمز البحر فضاء الآخر الغربي". (4)‏
لم يكن منيف في مشروعه الروائي قصد مكاناً محدداً أو شخصاً بعينه، فكان يكتب تاريخاً آخر مغايراً للتاريخ الذي كتبه ويكتبه السادة والحكام ويهدف من خلالها تحقيق العدالة والحرية للإنسان ومعالجة موضوع استقرار القوم العربي تحت نير الظالمين وإيقاظهم من نوم الغفلة.‏
قد حاز "منيف" جائزة القاهرة للإبداع الروائي العربي، في أعقاب المؤتمر الأول للرواية العربية، المعقود بالقاهرة عام 1998 وذلك لخماسيته "مدن الملح". حيث أشارت لجنة تحكيم مؤتمر الإبداع برئاسة المرحوم الأستاذ الدكتور "إحسان عباس" في سبب منحه الجائزة: لإعادتها قراءة التاريخ العربي بمفهومه الإنساني بعيداً عن تاريخ المؤسسات الرسمية وإدانة لها وهي تفتح أبواباً واسعةً أمام الرواية العربية وتعد تجربته فيها التجربة الروائية الأوسع والأجرأ بين التجارب الروائية العربية في التعبير عن قهر السلطة واستبدادها والأكثر تطوراً في التعبير عن الواقع العربي وهي الرواية الوحيدة بين الروايات العربية التي تتناول موضوع النفط بشكل ملحمي أقرب إلى موضوعها الأساسي.(5)‏

خماسية مدن الملح‏

بدأ عبد الرحمن يكتب روايته الكثيرة الأصداء، خماسية الأصداء "مدن الملح" للتعبير عن أهدافه السياسية، في الثمانينات راصداً من خلالها التعبيرات التي طرأت على المجتمع الصحراوي العربي عقب تحوله من مجتمع بدائي يحيا وفق مقدرات حياتية ثابتة وقاسية، ثم اكتشاف النفط وتحوله إلى مجتمع نفطي غني وما ترتب عليه من تغييرات في السلوك والعادات المميزة لهذا المجتمع. فالقارئ يرى تصوير حقبة من تاريخ المنطقة العربية "بكل ما انتابها من ألوان التغيير والتحول، ولعلنا، لن نبالغ إذا قلنا إنّ عبد الرحمن منيف من خلال خماسيته "مدن الملح" يكتب تاريخاً آخر مغايراً للتاريخ الذي يكتبه السادة والحكام". (6)‏
تعد خماسيته: التيه (1982)، الأخدود‏
(1985) تقاسيم الليل والنهار (1989)، المُنبت (1989)، بادية الظلمات (1992)، ملحمة روائية عربية يروي فيها "منيف" بأسلوبه المتميز مرحلة الانتقال الصعب من البداوة بحياتها البسيطة والطيبة إلى النفط بشروطه القاسية التي غيرت طبيعة البشر والأرض، ويرسم صورة لتشكيل المدن في الصحراء، وكيفية ترسيخ قيم جديدة في مكان صحراوي ثم إخضاع هذا المكان لسطوة الشركات النفطية (7). فمدن الملح التحام الرواية بالتاريخ فيروي التاريخ فيها بملابس الرواية فهي سرد روائي تاريخي "يكتب ما لم تحفل به كتب التاريخ الممزوقة والمصقولة، تاريخ الناس البسطاء في معاناتهم اليومية" (8). لكنها ليست روايةً تاريخيةً فحسب بل هي رواية اجتماعية. والدافع الأساسي لدى كاتبها هو الإحساس بأنّ موضوع النفط ومعرفة التأثيرات الاجتماعية الكبيرة التي حدثت نتيجة وجود هذه الثروة في المراحل الأولى في بناء الدولة الجديدة، بحاجة إلى معالجة روائية. فأصبحت روايات مدن الملح "تاريخاً فنياً" لظهور النفط في الجزيرة العربية من ناحية، وأسس قيام الدولة، وترسيخ قواعدها وعلاقاتها بالقوى الخارجية، من ناحية ثانية.‏
فتاريخية الرواية لا تدلّ على أنها أصبحت تقريراً سهلاً تقابل فيها كل شخصية في المشروع الروائي مقابلة للأخرى في التاريخ الواقعي، فثمة فارق واضح بين كتابة التاريخ والإبداع الفني الذي مادته في التاريخ. تأتي أهمية رواية مدن الملح من القضية الأساسية التي تتصدى لها: النفط، وظهوره في المنطقة العربية، وما أحدثه في الداخل والخارج. وإن منيف عمد إلى تصوير حاكم باطش وحاشية فاسدة وشعب مقهور أو تصوير اختلاف وجه الحياة في ملامحه الثقافية بين الأجيال المختلفة.... وإضافة إلى ذلك: "صورة حياة كاملة بأضوائها وظلالها وظلامها بأفراحها وأحزانها، ما يدور منها في العلن وما تخفيه أسوار القصور وأقفاص الصدور" (9) هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي "لأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى". (10).‏

مدن الملح أو مدن النفط؟‏

حينما سئل "عبد الرحمن منيف" لماذا سمي روايته "مدن الملح" وليس مدن النفط الذي هو أقرب إلى موضوعها بل هو موضوعها الأساس؟! أجاب: "عندما يفكر الإنسان للوهلة الأولى لاختيار عنوانٍ لهذه الرواية فسيقع اختياره على مدن النفط لكني قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها. إنّما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة، هذه الثروة "النفط" أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح، فالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات إلا أن زيادة في كميته أي عندما تزيد الملوحة سواء في الأرض أم في المياه تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. (11)‏
لقد برع "منيف" في تصوير تأثير البترول على الواقع العربي، وطرح قضاياه ومشاكله الاجتماعية، في خماسية "مدن الملح"، التي تؤرخ فنياً تلك المدن التي ظهرت فجأة في عالم الصحراء لتصبح عالماً آخر تنبعث منه رائحة النفط، "خدرت ساكنيها وجعلهم يتخبطون بين الوهم والحقيقة، مساحات طويلة يعبرونها بأزمان قصيرة، ينتقلون من خلالها من عالم البداوة إلى عالم الحديث" (12). فيأخذ منيف يد قارئ روايته ليذهب به إلى بدايات القرن العشرين ليريه مراحل تكوين المدن السريع في الصحراء وتبديل الصحراء برمتها إلى مدن بقوة البترول ومفعوليتها، ويبين له كيف بدأت تتبدل القيم والعلاقات، فتسود الحيرة والقلق والتوتر على شخصيات الرواية في مقاومتهم لكل أشكال التحديث عند الناس ثم يشاهد القارئ هيمنة شركات البترول البريطانية والأميركية على الصحراء أو بعبارة دقيقة على الإنسان.‏

الشخصية في العمل الروائي‏

صرح النقاد أن الشخصية الروائية "إنسان من ورق"، يخلقه الروائي ليحقق بوساطته هدفاً جمالياً ما، ويطرح رؤيا للعالم يؤمن بها... ورأوا من المفيد للنقد الأدبي أن يُحلل بناء هذا الإنسان الذي خلقته كلمات الروائي ليضع يده على الصنعة الفنية في العالم الروائي التخييلي (13). وأنها محض خيال يبدعه المؤلف لغاية فنية محددة. وتخلط القراءة الساذجة بين "الشخصية التخييلية" و"الشخصية الحية". في حين أن الشخصية التخييلية "كائن من ورق"، كما يرى "رولان بارت" و"تودوروف"، وأنها ليست أكثر من قضية "لسانية". وبهذا فإن تودوروف يجردها من محتواها الدلالي. من أجل إبراز وظيفتها النحوية، حيث يجعلها "فاعلاً" في السرد، بخلاف التحليل البنيوي الذي يعتبر الشخصية "دليلاً" ذا وجهين: أحدهما "دال" والآخر "مدلول". ولما كان القارئ هو الذي يحدد الشخصية الروائية من خلال أقوالها وأفعالها، فإن هذه "الشخصية" يمكن أن تتعدد، بتعدد القراء، ومستويات قراءاتهم، واختلاف تحليلاتهم. ويتجلى إسهام التحليل البنيوي في الاهتمام بالشخصية الروائية من حيث وظيفتها وأعمالها أكثر من اهتمامه بصفاتها الخارجية ومظاهرها السطحية (14).‏
مع هذا وذاك يجب أن لا ننسى أنّ الشخصية الروائية هي مرتكز الرواية وأنها إن لم تكن بصلة وثيقة بالحياة حيث تحمل في طياتها ملامحها تفقد الرواية حيويتها ومفعوليتها. والشخصية ــ خاصة البطل ــ لابد أن تولد من رحم المجتمع، لأنها "انعكاس للوضع الاجتماعي فهي تعد بهذا المفهوم خلقاً اجتماعياً بحتاً" (15). وإن القارئ يتفاعل معه كشخصية تحسها وتلمسها وكأنه تعيش معها وسبب ذلك يرجع إلى نموذجية الشخصية وأنها تمثل طبقة أو شريحة اجتماعية خلقها الكاتب الروائي من المجتمع لا من العدم أو من خياله البحت.‏

الشخصية في رواية مدن الملح

مدن الملح رواية حافلة بشخصيات كثيرة مختلفة متنوعة: من الرجال والنساء، أهل البلاد والوافدين من عرب وأجانب، الأمراء والسوقة، التجار ورجال الدين، حاشية السلطان ومناهضي السلطان، قادة الجند، خدم القصور، رجال الأعمال، الأفاقين والسماسرة، العرافين والمنجمين وقارئي الطالع، عشاق المال وعشاق المتعة وعشاق الخيل وعشاق السلطة وعشاق الكلمات وعشاق قولة الحق، إلا أنها كلّها مستوية مستديرة متكاملة الوجود، لها حق غير منقوص في أن تحيا غير مختلطة بسواها، قد تتشابه لكنها لا تتماثل: ولعل أبقاها تلك التي تمثلت أصفى قيم المجتمع القديم وممارساته، في التواؤم مع الطبيعة وحسن استغلال مصادرها والعيش في ظل العدل والحرية(16).‏
حاول منيف في روايته هذه، إهمال الشخصية الرئيسية وإلغاء دورها كلياً، حيث استغنى عن دور البطل الرئيسي. فالعديد من الشخصيات في مدن الملح تظهر وتختفي بعد أن تقوم بدورها ولا تذكر أبداً. لم تعد البطولة تقتصر على واحد أو اثنين من شخصيات الرواية. "المشترك الوحيد بين عشرات الشخصيات التي تظهر على مسرح الأحداث في رواية مدن الملح أنها كلها تسير نحو مستقبل مجهول، نحو النهايات ونحو التيه في بحر الظلمات" (17). هذا ما أشار إليه منيف في بداية روايته: "إنه وادي العيون... فجأة، وسط الصحراء القاسية العنيدة، تنبثق هذه البقعة الخضراء وكأنها انفجرت من باطن الأرض أو سقطت من السماء فهي تختلف عن كل ما حولها... حتى ليحار الإنسان وينبهر، فيندفع إلى التساؤل ثم العجب "كيف انفجرت المياه والخضرة في مكان مثل هذه؟" لكن هذا العجب يزول تدريجياً ليحل مكانه نوع من الإكبار الغامض ثم التأمل. إنها حالة من‏
الحالات القليلة التي تعبر فيها الطبيعة عن عبقريتها وجموحها وتبقى هكذا عصية على أيّ تفسير" (18).‏
يحكم شخصيات الرواية شيء واحد وهو الدهشة والانبهار أمام التغيير المفاجئ السريع الذي تحدث عنه منيف في لسان إحدى شخصياته وهي "نجمة المثقال" العرافة: "من وادي الجناح حتى الضالع، ومن السارحة حتى الطالق، النار تلهم النار، والصغير يموت قبل الكبير. أولها عد وآخرها مد، والوالد لا يعرفه أبوه والأخ لا يعرفه أخوه" (19) فأصبح الناس يتذاكرون هذه المقولة ويضيفون من عندهم عليها ويتناقلونها مع بعض التحريف.‏
هكذا أصبحت صحراء "حران" محطة أنباء إذاعة لندن لأنّها تبدلت إلى "ميناء بترولي صاحب مصافي ومستودعات تموين للمنطقة وللسفن وأشياء أخرى" (20) فشخصيات الرواية يقولون لأنفسهم "يجب أن تزور هذه المنطقة وأن تتعرف عليها" (21) وهم قبل ذلك لم يسمعوا بــ "حران" ولم يفكروا بها.. "والآن كما ترى، يا صاحب السمو... فسبحان الله" (22).‏
أما هذه الشخصيات التي تبدو على مسرح الأحداث، فمنها التي تشق طريقها واثقة من خطواتها وهي لا تدري أنها تدفع بنفسها نحو التيه والظلمات والنهاية، ومنها المهزومة التائهة التي تريد تأمين ما يضمن بقاءها في الحياة لا أكثر، ومنها التي لا تجد أمامها من حيلة أمام التغير الهائل الذي تشهده في المكان والزمان إلا البكاء والتحسر على الذي كان ولن يعود (23). لأنها شخصيات صنعها البترول بتواجده على مائدتهم! وهي، في الرواية، تدل في تاريخيتها على موضوع هام هو اكتشاف النفط والانتقال إلى العصر النفطي وتأثيراته في الحياة العربية برمتها مما يجعل العمل الأدبي بحثاً تاريخياً في ثوب رواية، وقد قال عبد الرحمن منيف مؤكداً شغله التاريخي والروائي معاً: "وبالنسبة لمدن الملح قرأتُ كماً كبيراً، لا لكي أستخدمه كوثيقة، وإنما من أجل أن أبتعد، وبمسافة كافية، لإعادة صياغة التاريخ بخطوط موازية، وليست كوقائع فعلية حصلت" (24).‏

نلمح في مدن الملح تطور مراحل الدولة الثلاث التي رسمها عبد الرحمن منيف دقائقها العديدة فهذه المراحل هي: مرحلة الفتك والعنف ثم مرحلة وهم القوة وأخيراً مرحلة وهم صيرورة الدولة الجديدة في الخليج الفارسي (25).‏

أولاً: مرحلة الفتك والعنف

المرحلة الأولى هي مرحلة تأسيس المملكة، صنعها السلطان "خربيط" رمزاً للسياسة الداخلية و"هاملتون" رمزاً للعلاقات الخارجية. قد امتدت هذه المرحلة من الحرب العالمية الأولى ــ أو قبلها بقليل ــ حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية: أي في زمن "كل شيء مطروح لإعادة النظر، لإعادة القسمة: الأفكار، المناطق، الدول، حتى الملوك والسلاطين والأمراء الصغار. دول تنهض فجأةً وأخرى تغيب" (26).‏
كان "مرخان هديب" أميراً لموران وما جاورها فهزم في غزوة من غزوات الجراد من "بني سحيم" واستطاع العرب. ثم كان له ولده اسمه "خريبط" تشغله العودة إلى موران أكثر من أي شيء آخر، وكان الصراع حينذاك أشده بين أمراء الصحراء، منهم "مزهر بن سحيم" الذي عادى "مرخاي" فارتكب خطأ سياسياً تكتيكياً عندما عادى بريطانيا وطلب معونة الأتراك. قُدر لخريبط بعد ذلك أن يقتل "مزهر السحيم". لم تمض سنوات حتى أصبحت موران تدين بالطاعة والولاء لخريبط، تدفع له الزكاة وتقدم الجنود وتصلي وراء الأئمة الذين بعث بهم إلى كل مكان وأصبحت موران أيضاً "دولة كبرى" في هذا الخضم الصحراوي الذي لم يعرف من قبل كيف يصل إلى صيغة يمكن أن يرضي نفسه أو يرضي أصدقاءه (27). وموران مدينة وصفها صحفي إنكليزي بأنها: "مدينة عجيبة، إنها تشبه الصحراء بكل تفاصيلها وأخلاقها، أو بالأحرى تلخصها. فهي قادرة على استقبال كل شيء وهضم كل شيء، تماماً مثل النعام، لكنها تعرف كيف تتظاهر بالصمت والسكينة، حتّى إذا جاءت لحظة الغضب لا تبقي ولا تذر" (28). فأعلن "خريبط" نفسه سلطاناً على موران وطال به الأمر على هذه الحال، فشهد الانقلاب السياسي العالمي الكبير بعيد الحرب العالمية الثانية.‏
لقد بدأ "خريبط" حياته السياسية أميراً بدوياً صغيراً شجاعاً وفتاكاً في الحروب يؤكد أن الهدف من حروبه إعلاء راية الإسلام في كل مكان، إنه في الحرب كان شديد البأس لا يرحم حتى يوصي ابنه خزعل بأن يكسر رقبة أي شخص إذا اعترض أو خالف وينصح ابنه "فنر" بأن يفتك بالناس فتكاً "خلي الأرض ترجف تحت رجلك".‏
إذا كان منيف صور سيطرة الأمريكان على "حران" في رواية "التيه" فإنه صور سيطرة الإنجليز في الروايتين "الأخدود" و"تقاسيم الليل والنهار" في "موران" إذ أسس "خريبط" أكبر سلطنة في الصحراء العربية وظل حليف الإنكليز حتى ضعفوا، وكان حذراً جداً في تعامله مع الإنكليز والأمريكيين في تلك الحقبة وقد مات خريبط في مجرى التحول السياسي الكبير بعيد الحرب العالمية الثانية. ورثه في السلطنة ابنه خزعل وورث الأميركيون البريطانيين على مستوى النفوذ والسيطرة.‏
بموت السلطان خريبط انتهت وانطوت صفحة كاملة في تاريخ الصحراء. أما الصفحات التالية فإنها متن الاضطراب والتداخل، وعدم اليقين أيضاً، إلى درجة تختلط فيها الوقائع بالرغبات والأوهام، ورغم قربها، أو بالأحرى بسبب قربها، فإنها زلقة، رجراجة، خادعة، وشديدة التحول أيضاً. وهي بمقدار ما تبدو واضحة، مثل الكثير من وقائع التاريخ الذي يتكون تحت أبصارنا فإنها مموهة، محرفة، إن لم تكن كاذبة. لأن رياحاً شديدةً ومستمرةً ظلت تهب طوال سنين، فقد غيرت الكثير من المعالم والأشكال، وغيرت أيضاً أفكار الكثيرين وقناعاتهم وعلاقاتهم، أصبحوا بشراً من نمط آخر وعلى حدّ قول غزالة الحوشان ــ إحدى شخصيات الرواية ــ "هؤلاء الرجال دينهم ومعبودهم القصر" (29).‏
أما شخصية "هاملتون" فملفتة للنظر جداً. هو رمز الغرب والعامل الأساسي في تكوين الدولة العربية على رمال الصحراء. رجل جاء من لندن فوصفه منيف: "ليس واحداً، إنّه الكثير في شخص، ومجموع الأشخاص في واحد،... مسيحي وزنديق لا يتردد في أن يجرب أدياناً أخرى أيضاً! يعتبر نفسه من كبار الحمقى، لأنه جاء إلى هذه الصحراء الملعونة، وفي اللحظة التالية يتصور نفسه نبياً لموران وما حولها، لأنه يبشر بدين الغرب ويريد لهذا الدين أن يعم ويسود ولا يمكن لأحد غيره أن يفعل وأن يصل" (30) أطلق عليه السلطان خريبط اسم "الصاحب" لأنه أصبح له مثل ظل لا يفارقه ولا يفترق عنه. له ارتباط وثيق بابني خريبط "خزعل" و"فنر" وإنه يعجب بفنر ويساعده في السيطرة على الحكم. فالعجب منه، نظرته إلى الشرق، مرة يقول للسلطان: "... وهذه الشرق، يا طويل العمر، مهبط الوحي وموطن الرسالات، لا يمكن لأحد أن يفهمه إذا لم يعش فيه" (31). وتارة يتذكر ما قاله له أبوه: "خلق الشرق ليكون ملعباً لخيولنا وفرساننا" (32).‏
وأخرى يقول لنفسه: "في الشرق ينسون، أو لا يدركون، الجوهري. أنهم أنباء اللحظة والشيء الظاهر، وربما كانت الخيمة مثالاً لتكوينهم العقلي فهي تجسد رد فعلهم الحقيقي. فالخيمة تتأثر بالآني ولا تملك ثباتاً أو استمراراً. الريح التي تعصف الآن هي وحدها التي تعنيها وتؤثر عليها، فهم لا يتذكرون الرياح التي مرت أو الرياح التي ستأتي. كذلك أفكارهم أو عواطفهم. إنها عرضة للتقلب والتغيير بتغيير المناخ" (33).‏
تعلم هاملتون من حياته الجامعية إذا أراد أن يستقطب انتباه الآخرين فعليه "أن يتكلم إما بطريقة مختلفة أو شيء مختلف" لذلك يقول مخاطباً الأمير: إنك يا سمو الأمير بحاجة إلى كمية كبيرة من البحر، نعم كمية كبيرة، لكي توازن هذا الكم الهائل الذي لديك من الصحراء" والأمير الذي أعجب بالتعبير لم يجد له دلالة علمية، أو معنى مجدداً، ابتسم وهز رأسه ولم يعلق (34). وأخيراً إنه وصل إلى معادلة جديدة وهامة لا يعرفها غيره فيقترحه إلى الأمير "فنر" قائلاً: "إذا تم الوصول إلى معادلة جديدة هي الصحراء والدين والبحر، فعندئذ يمكن أن يترتب على هذه المعادلة شيء جديد" (35) لأنه ضروري أن تولد معادلة جديدة لتغيير الظروف وهذه المعادلة هي الصحراء ــ رمز الإنسان العربي بخصوصياتها المختلفة ــ والبحر ــ رمز الإنسان الغربي الذي يريد أن يهيمن على الصحراء ويغير قيمه ويسود عليه ــ والدين لأنّ له قدرةً عند الإنسان العربي الصحراوي فلابد من الاستفادة منه لأجل مفعولية المعادلة وتأثيرها القوي على الساحة السياسية.‏

ثانياً: مرحلة وهم القوة

المرحلة الثانية هي مرحلة الانقلابات السياسية العالمية، بطلها داخلياً السلطان "خزعل"؛ هذه المرحلة هي استمرار للمرحلة الأولى فقد ناضر خزعل أباه وأعدّ نفسه لما بعده وسماه شخصياً خليفة له. قد يكون العمل السياسي الأكثر أهمية الذي قام به في البداية، هو طرد هاملتون من السلطنة وعمل إلى إبعاد إخوته الثلاثة عن مركز الحكم. فسافر "مشعان" و"تركي" و"فنر" الإخوة الثلاثة لخزعل إلى بلاد أخرى في أسفار طويلة المدى، و"بغياب الإخوة الثلاثة شعر السلطان خزعل بالراحة لقد خلا له الجو أخيراً فبدا واثقاً قوياً بل وأقرب إلى السعادة" (36).‏
كانت مرحلته هي مرحلة تثبيت الوجود الأمريكي في الصحراء وإحكام سيطرتهم على النفط فقد عمل الأمريكيون جاهدين لاستبعاد الاتحاد السوفيتي عن المنطقة والحيلولة دون دخوله شريكاً في نفطها واهتموا بإعادة رسمها وإعداد حكامها وبناء توجهاتها السياسية. فمعنى وهم القوة أن شخصية خزعل (الملك) لم يكن أكثر من "أكذوبة كبرى" وهو أمر جلي في عزله عن السلطة بسهولة ودون مشكلات تذكر فإنه غادر السلطنة إلى ألمانيا لقضاء شهر العسل مع عروسه وتسلم أخوه فنر السلطة مكانه‏
وظل في ألمانيا حتى مات فأعيد جثمانه إلى موران (37).‏
إن خزعل كان يبدي شجاعة وبسالة في الحروب وكان يجزل العطاء ويقدم الهدايا لأغلب الذين يزوروهم مودعاً. وقد اتضح لكل من يلتقيه أو يسمع ما ينقل عن لسانه، إنه سيكون في مقدمة الحملة.. وأشار الذين يحبونه وبأسف، إن مقدمة أية حملة خصوصاً حملة كالتي تتوجه إلى العوالي، ستواجه أخطاراً كبيرةً وكانوا يضيفون بنوع من الفخر والمباهاة "وفي المقدمة يكون عادة أهم القادة وأشجع الجنود وأقوى الفرسان" (38) وكان سلطان خريبط يمدحه ويصفه بأنه قوي تنجيه الملائكة والله هو‏
حاميه (39).‏
لم يكن الأمير "خزعل" الابن الأكبر أو الأول للسلطان "خريبط"، فقد جاء قبله ولدان ماتا في الشهور الأولى، وجاء ثالث، منصور، وعاش حتى بلغ السابعة عشرة من العمر، لكن في معركة الرحيبة الكبيرة قتل. صحيح أن الأمير خزعل لم يفكر ولم يعد نفسه في البداية لأن يحل مكان أبيه، أو مكان أخيه منصور ربما كان في أعماقه يحس أن إخوة آخرين أكثر كفاءةً منه أو أكثر استعداداً. لكن فجأة وجد نفسه ولياً للعهد وبمرور الأيام نسي أنه أصغر من منصور، أو أنه لابد أن يكون سلطاناً، خاصة وأن أخواله يحملون في قلوبهم ضغائن لا تخفي على السلطان خريبط، لأنه حرمهم من ملك كانوا يطمحون ويحاولون الوصول إليه، تناسى هؤلاء الأخوال الضغائن فجأة فهجروا عزلتهم وابتعادهم وجاؤوا إلى موران مرّةً أخرى (40).‏
إن منجماً مغربياً التقى بالأمير خزعل في إحدى سفراته، حين كان ولياً للعهد، ونبهه لشيءٍ واحدٍ: أن لا يسكن في قصر أبيه، لأن هذا القصر سيكون قصراً مشؤوماً على من يأتي بعد السلطان الحالي، ولما خاف الأمير وسأله عن معنى ذاك، قال له المنجم: "قلت لك ما يكفي وما يجب أن يقال.. فاحذر!" (52)‏
ورث السلطان عن أبيه صفتين: طول القامة وحب النساء. وورث السلطنة أيضاً. فقامته الطويلة الضخمة كانت تثير الاستغراب أكثر مما توحي بالمهابة، خاصةً إذا عبرت عنها تلك الضحكة المجلجلة وذاك الصوت الكثيف المبطن، والذي يبدو لأول وهلة وكأنه صدر من أعماق الصدر، على شكل طبقات سمكية متابعة، أو على شكل موجات تدفع بعضها بعضاً. (42)‏
كان هاملتون اهتم بفنر الابن الآخر لخريبط اهتماماً، وعندما طلب منه السلطان خريبط أن يعتني به تعهد تربيته وأجاب: "تربية مخلوق بري، وخاصة إذا كان قد تكوّن ونما، أصعب من ترويض وحش غير قابل للترويض" (43). فهاملتون اعتبر تسمية خزعل ولياً للعهد، ضربة قاسية. لكن بعد أن زالت المفاجأة، بدأ يخطط إلى ما بعدها، قال لفنر، في إحدى الليالي، وكان يتمشى في شرفة القصر الجديد المطلة على البحر: الضربة الثالثة التي لا تقتلني تقويني وتفيدني(44).‏
إن فنر ذهب مع هاملتون إلى بريطانيا وفي اليوم الثالث لوصوله إلى لندن تخلى فنر عن ملابس البادية، بناءً لطلب هاملتون، وكان سعيداً أن يفعل ذلك، لكي لا يبدو بنظر الآخرين مجرد لعبة لا يملون من النظر إليها والابتسام. وشعر بحُريةٍ أكبر حين اقترح هاملتون أن يقضوا أطول فترة ممكنة في الريف: "الريف الإنكليزي هادئ وجميل. هناك لا أحد يزعجنا، والناس، بعد بضعة أيام، يألفون الزائر ويصبح مثلهم أو واحداً منهم. عكس "لندن" التي تسلي نفسها وتتغلب على ضجرها بالنظر إلى الوجوه، خاصةً وجوه الأجانب وتبتسم بسخرية (45).‏
هكذا مهد هاملتون أرضية مناسبة لتأسيس دولة جديدة على رأسها "فنر" الذي رباه بنفسه وأعده لمثل هذا اليوم.‏

ثالثاً: مرحلة صيرورة الدولة الجديدة في الخليج‏

المرحلة الأخيرة هي مرحلة تثبيت الحدود والسلطات والعلاقات بالخارج، وبطلها داخلياً السلطان "فنر" إذ استطاع أن يعطيها بعض المميزات الخاصة.‏
إن "فنر" كان وحيداً لأمه، وقد نشأ في عزلة أبعدته عن إخوته وكان ميالاً إلى الصمت والتأمل، فقد بايع خزعل وابتعد وسافر إلى سويسرا وأميركا للعلاج، مستأذناً أخاه السلطان، إذ كان يشكو من الصفراء وغالباً ما يبدو مريضاً ومتعباً. "الآن وفنر يعلن عن رغبته في السفر، للعلاج، وقد يعود ولا يعود، وإذا عاد فلن يكون ذلك في وقت قريب، فقد شعر السلطان بالراحة وفي محاولة للتعبير عن حرصه ومحبته بعث إليه بمبلغٍ كبيرٍ. و... وهكذا سافر فنر وغاب غيبة طويلة" (46).‏
غاب الأمير فنر عن السلطة بضع سنين متنقلاً بين سويسرا والنمسا والولايات المتحدة التماساً للراحة والاستجمام أو طلباً للعلاج، لم يرجع إلى موران خلال هذه السنين لفتراتٍ قصيرةٍ لا تتعدى الأسابيع. وكان في كل زيارة يحزم أمتعته فجأةً ويرحل من جديد، بعد أن يكون قد امتلأ تشاؤماً وعاوده المرض مرةً أخرى (47).‏
قرر "هاملتون" العميل البريطاني إعداد "فنر" للوصول إلى سدة السلطة. اصطحبه إلى بريطانيا مرات متتالية فتعلم الإنجليزية واكتشف العالم. ثم أعده "أميراً" على طريقة "ميكافيللي" تماماً وقرأ عليه أولاً مقاطع من كتاب "الأمير" لميكافيللي وأهداه أوراقاً مترجمة منه فلاحظ أن شيئاً أقرب إلى الكشف أو الزلزال حدث في فكره وحياته. بدأ فنر يحلم وشعر أن باستطاعته تنفيذ وصايا "ميكافيللي" التي ليست لليوم والغد، إنها للحياة كلها، خاصة قولته المشهورة: "الغاية تبرر الواسطة" (48) فوعد نفسه بأن يتعلم كثيراً ويصمت كثيراً مما أدى بالنهاية إلى أن يصبح أميراً بالمعنى الذي أراده هاملتون وميكافيللي.‏
فقد استطاع فنر أن يترجم عملياً وصايا ميكافيللي وأصبح سلوكه السياسي مجموعة إجابات على السؤال التالي: ماذا نحتاج للبقاء في السلطة؟ إن هذا الهدف يحتاج على رأي ميكافيللي إلى كسر القوانين الأخلاقية. فممن قدمه هاملتون لفنر من كتاب "الأمير" لميكافيللي لتتعلمه: "أما المنافع فيجب أن تمنح قطرة فقطرة، حتى يشعر الشعب بمذاقها ويلتذ بها" و"على الأمير أن لا يستهدف شيئاً غير الحرب وتنظيمها وطرقها وأن لا يفكر أو يدرس شيئاً سواها، إذ إن الحرب هي الفن الوحيد الذي يحتاج إليه كل من يتولى القيادة" (49) و"إنّ من الواجب أن يخافك الناس وأن يحبوك، ولكن لما كان من العسير أن تجمع بين الأمرين، فإن من الأفضل أن يخافوك على أن يحبوك" و"على الأمير الذي يجد نفسه مرغماً على تعلم طريقة عمل الحيوان، أي اللجوء إلى القوة، أن يقلد الثعلب والأسد معاً، إذ إن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب، ولذا يتحتم عليه أن يكون ثعلباً يميز الفخاخ وأسداً ليرهب الذئاب" و"إن على الأمير أن لا يخشى كثيراً من المؤامرات، إذا كان الشعب راضياً عنه أما إذا كان مكروهاً، ويحس بعداء الشعب له، فإن عليه أن يخشى من كل إنسان ومن كل شيء (50). وأخيراً "على الأمير أن يقبل النصيحة دائماً، لكن عندما يريد هو، لا عندما يريد الآخرون، بل عليه أن لا يشجع مطلقاً المحاولات لإهداء النصيحة إليه، إلا إذا طلبها" (51).‏
هذه تعليمات ميكافيللي أهداه هاملتون لفنر فاعترته المشاعر المختلفة من الخوف والإعجاب والتساؤل. حلم أنه قادر على تنفيذ هذه الوصايا وأنه يريدها وقال لنفسه في لحظة حزم "علي أن أتعلم كثيراً وعلي أن أصمت كثيراً وعلي أن لا أظهر ما يجب أن أفعله..." (52)، وأوصاه هاملتون بقراءة التاريخ واستدراكه قائلاً: التاريخ لا يمكن أن ينتقل، يا طويل العمر، وكل من يريد أن يدرسه وأن يكتب عنه يجب أن يأتي إليه طائعاً مختاراً ومن أكبر الأخطاء التي وقع فيها كثير من المؤرخين أنهم جردوا التاريخ من روحه ومن المكان الذي وقعت فيه أحداثه، ومن البشر الذين هم جزء من هذا التاريخ" (53).‏
وأخيراً رجع فنر بعد سنين إلى موران ووصل إلى الحكم بمعاونة "هاملتون"، وبذلك ظهرت معادلة جديدة (الصحراء والدين والبحر) ترتبت عليها مرحلة جديدة هي المرحلة التي تتوج بها صيرورة الدولة الجديدة في الخليج، فنصح هاملتون فنر قائلاً: "السياسة يا صاحب السمو، لا تكون بالهرب منها أو بالغضب، يجب أن تواجه المشاكل مهما كانت قاسية وصعبة، وأن تتخذ قرارات مهما كانت مؤلمة" (54) لذلك على الحاكم الناجح أن يكون أسداً وثعلباً في آن، وعليه أن يعرف متى يهادن ومتى يقسو ويفتك. وهي المهمة التي نفذها فنر بصورة جيدة. فقد وظف كل ما يمكن توظيفه من مقدرات وأساليب عسكرية وأمنية من أجل البقاء في السلطة ولم يلتفت ساعة إلى ما هو أخلاقي...‏
لقد حاول عبد الرحمن منيف من خلال تصويره الأدبي والروائي لشخصيات مدن الملح أن يكشف عن المراحل الثلاث لظهور الدولة العربية وتطورها واستتبابها في الخليج العربي على المستوين الداخلي والخارجي. لقد جرى تصنيع نوع من الدولة هي مزيج من خضوع تام للسيطرة الخارجية والسيطرة الداخلية عبر إخضاع المجتمع بحيث جعل منها مصدراً للقمع الشامل والهزيمة الشاملة. فإننا أمام سلطانٍ يصف نفسه القاضي الأول والأخير كان خريبط على سبيل المثال يأمر بالإعدام وينفذ الحكم وقد فعل ذلك مراراً، حكم بالإعدام على عدد من الخدم والعاملين في المخازن والعبيد بسبب أخطاء صغيرة ووشايات لا قيمة لها.‏
قراءة شخصيات رواية "مدن الملح" تعطينا معرفةً روائيةً هامةً وهي أنّ إحداث الرواية المتمثل في شخصياتها النفطية تبدي لنا بوضوحٍ الغزو الحضاري العالمي ممثلاً بأمريكا بكل ثقله، حيث تحل شركة نفطية أمريكية بوادي العيون، منقبة عن النفط، فتغير معالم المنطقة جغرافياً وسكانياً وحضارياً وثقافياً تشرد بعضهم وتتخذ من بعضهم الآخر عبيداً يقومون بالأعمال الشاقة (55) وبمرور الزمن تستطيع هذه الشركة أن تمارس تأثيراً قوياً في المجتمع على المستوى الثقافي والسياسي وذلك من خلال المستشرق الإنكليزي "هاملتون" الذي كان يخطط للإطاحة بأنظمة حكم كما فعل مع سلطان "خزعل" ويضع من يريد لاستسلام السلطنة مثلما فعل مع الأمير "فنر" ويرسم الخريطة السياسية في "حران" و"موران".‏
إنها شخصيات تحول بفعل الحدث النفطي تم استحضارها تاريخياً ولكن بأسماء مستعارة (خريبط ــ خزعل ــ فنر ــ هاملتون) لنتعرف من خلالها على الظروف السياسية المحاطة بالدولة العربية في القرن العشرين ونلاحظ أن هذه الشخصيات يتغير حديثها ما بين الرواية ونهايتها، ففي البداية كان حديث "الرفض مع الحيرة"، وفي آخر النص يصبح حديث "الرفض مع الفهم" ومع ذلك فإنّ هذه الشخصيات لا تملك سوى كلماتها، لا تملك سوى شهادتها (56).‏

النتيجة‏

حاول منيف خلال تصويره الأدبي والروائي لشخصيات روايته الخماسية الشهيرة "مدن الملح" أن يكشف عن المراحل الثلاث لظهور الدولة العربية وتطورها واستقرارها في الخليج العربي على المستويين الداخلي والخارجي. لقد جرى تصنيع نوع من الدولة هي مزيج من خضوع تام للسيطرة الخارجية والاستبداد الداخلي عبر إخضاع المجتمع بحيث جعل منها مصدراً للقمح الشامل والهزيمة الشاملة. فالسلطان هو القاضي الأول والأخير (سلطان خريبط) أو الحاكم المحتال الضعيف النفس لا يهتمّ إلا بإرضاء شهواته (السلطان خزعل) أو الحاكم الميكافيللي الذي تلقى دروسه من إنجلترا ووصل سدة الحكم بمساعدتهم (السلطان "فنر" ومعلمه "هاملتون"). وإنّ هذه الشخصيات تتحول بفعل الحدث النفطي ليتعرف القارئ من خلالها على الظروف السياسية المحاطة بالدولة العربية في القرن العشرين.‏
والمعرفة الأخيرة التي نتعلمها من قراءتنا لشخصيات رواية مدينة الملح هو الغزو الحضاري العالمي الممثل بأميركا بكل ثقفه ــ حيث تحل شركة نفطية أميركية بوادي العيون، منقبة عن النفط ــ فتغير معالم المنطقة جغرافياً وسكانياً وحضارياً وثقافياً تشرد بعضهم وتتخذ من بعضهم الآخر عبيداً يقومون بالأعمال الشاقة وبمرور الزمن تستطيع هذه الشركة أن تمارس تأثيراً قوياً في المجتمع على المستوى الثقافي والسياسي ولذلك من خلال المستشرق الإنكليزي "هاملتون" الذي كان يخطط للإطاحة بأنظمة الحكم كما فعل مع سلطان "خزعل" ويضع من يريد لاستسلام السلطنة مثلما فعل مع الأمير "فنر" ويرسم الخريطة السياسية في "حران" و"موران" وهما رمزان للمنطقة العربية في الخليج العربي.‏

الهوامش‏
1 ــ عماد مطاوع، عبد الرحمن منيف المرتحل الأبدي، مجلة مجاهيل ومشاهير.‏
2 ــ عفاف عبد المعطي، رحيل عبد الرحمن منيف، مجلة رابطة أدبيات الإمارات.‏
3 ــ صالح سليمان، أدب الحياة.. لا المضطهدين، مجلة أخبار الأدب، العدد 558.‏
4 ــ جمعة، حسين، أطياف المنطق والتضاد منيف نموذجاً، مجلة الموقف الأدبي، العدد 220، ص 13‏
5 ــ المصدر السابق، ص 10‏
6 ــ عماد مطاوع، عبد الرحمن منيف المرتحل الأبدي، مجلة مجاهيل ومشاهير.‏
7 ــ عفاف عبد المعطي، رحيل عبد الرحمن منيف، مجلة رابطة أدبيات الإمارات.‏
8 ــ مريم خلفان، المكان ــ السرد في مدن الملح، مجلة نزوى، العدد 2‏
9 ــ فاروق عبد القادر، الرواية العربية وترميم الذاكرة، مجلة الموقف الأدبي، العدد 289‏
10 ــ رشا الحديدي، بيبلوغرافيا روايات ومؤلفات عبد الرحمن منيف، مجلة الأسبوع الأدبي، العدد 1027‏
11 ــ جمعة، حسين، أطياف المنطلق والتضاد منيف نموذجاً، مجلة الموقف الأدبي، العدد 220، ص 12‏
12 ــ رشا الحديدي، ببيلوغرافيا روايات ومؤلفات عبد الرحمن منيف، مجلة الأسبوع الأدبي، العدد 1027‏
13 ــ سمر روحي الفيصل، بناء الشخصية الروائية، مجلة الموقف الأدبي، العدد 345، ص 116‏
14 ــ محمد عزام، البطل الروائي، مجلة الموقف الأدبي، العدد 32، ص 105‏
15 ــ أحمد إبراهيم الهواري، البطل في الرواية المصرية، ص 1‏
16 ــ فاروق عبد القادر، الرواية العربية وترميم الذاكرة، مجلة الموقف الأدبي، العدد 289‏
17 ــ نبيه القاسم، الشخصية في رواية مدن الملح، موقع الكاتب الفلسطيني، د. نبيه القاسم.‏
18 ــ عبد الرحمن منيف، التيه، ص 7‏
19 ــ المصدر السابق، ص 158‏
20 ــ المصدر السابق، ص 228‏
21 ــ المصدر السابق، ص 228‏
22 ــ المصدر السابق، ص 229‏
23 ــ نبيه القاسم، الشخصية في رواية مدن الملح، موقع الكابت الفلسطيني، د. نبيه القاسم.‏
24 ــ عبد الله أبو هيف، رؤى التاريخ في الرواية العربية، مجلة الموقف الأدبي، العدد 372، ص 55‏
25 ــ طلعت أبو زيد، السلطة والدولة الخليجية في إبداع عبد الرحمن منيف، مجلة الديمقراطية، 2007‏
26 ــ عبد الرحمن منيف، تقاسيم الليل والنهار، ص 9‏
27 ــ المصدر السابق، ص 17‏
28 ــ عبد الرحمن منيف، بادية الظلمات ص 496‏
29 ــ المصدر السابق، ص 205‏
30 ــ عبد الرحمن منيف، تقاسيم الليل والنهار ص 2 ــ 3‏
31 ــ المصدر السابق.‏
32 ــ المصدر السابق.‏
33 ــ المصدر السابق، ص 121‏
34 ــ عبد الرحمن منيف، بادية الظلمات، ص6 و7‏
35 ــ المصدر السابق، ص 8‏
36 ــ عبد الرحمن منيف، الأخدود ص 70‏
37 ــ عبد الرحمن منيف، المنبت، 258‏
38 ــ عبد الرحمن منيف، تقاسيم الليل والنهار، ص 123‏
39 ــ عبد الرحمن منيف، بادية الظلمات، ص 15‏
40 ــ عبد الرحمن منيف، الأخدود، ص 7‏
41 ــ المصدر السابق، ص 25‏
42 ــ المصدر السابق، ص 79‏
43 ــ عبد الرحمن منيف، تقاسيم الليل والنهار، ص 72‏
44 ــ عبد الرحمن منيف، بادية الظلمات، ص 190‏
45 ــ عبد الرحمن منيف، تقاسيم الليل والنهار، ص 92‏
46 ــ عبد الرحمن منيف، الأخدود ص 68 ــ 69‏
47 ــ المصدر السابق، ص 455‏
48 ــ عبد الرحمن منيف، بادية الظلمات ص 22‏
49 ــ المصدر السابق، ص 27‏
50 ــ المصدر السابق، ص 28 ــ 29‏
51 ــ المصدر السابق، ص 32‏
52 ــ المصدر السابق، ص 32‏
53 ــ عبد الرحمن منيف، تقاسيم الليل والنهار، ص 191‏
54 ــ المصدر السابق، ص 311‏
55 ــ فرحان اليحيى، البعد الحضاري في روايات عبد الرحمن منيف، مجلة جيران عدد 200‏
                                                                                            مريم رحمتي تركاشوند

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

صدى المعرفة

2016